المحتوى الرئيسى

مَن هم البرابرة؟

10/14 10:46

يحشد كل شيء لمواجهة هؤلاء البرابرة الذين لا نفهمهم، ولا نرغب في أن نفهمهم، وفي الطريق إلى محاربتهم يصبح كل شيء مبرراً، حتى تحول محاربو البرابرة إلى "برابرة".

إن البرابرة هم مَن يعتقدون بوجود البرابرة؛ لأن نزع بشرية أي إنسان يجعل من الفاعل فاقداً لأي قيمة أخلاقية.. عشت مع رواية "في انتظار البرابرة" للكاتب الجنوب إفريقي جون ماكسويل كوتزي أياماً صعبة ممتعة، لا أعرف هل أنا أمام لوحة أم قصيدة أم منشور فكري يدين الحضارة الغربية.

إنها من الروايات "المزعجة"، إن جاز لنا أن نصفها بهذه التسمية، مزعجة لواقعيتها والطريقة الحقيقية التي تصور بها العالم، كما لا تفعل معظم الروايات والكتب، رغم أن الكاتب جون ماكسويل كوتزي لا ينتمي عرقياً للأفارقة السود، رغم أنه من جنوب إفريقيا، غير أنه رجل أبيض.

والرواية تعتبر من أهم الأعمال الأدبية التي تناولت طغيان الرجل الأبيض ومحاولته استئصال الثقافات التي تختلف عنه، فهو يصور لنا الإمبراطورية العظيمة في دور الإنسان المتحضر والبرابرة المستعمرين في دور الإنسان المتخلف؛ لتقوم بينهما علاقة السيد والعبد، ومحاولة كل منهما استمالة الآخر من خلال جعله يرضخ له.

الرواية جميلة وقصتها رائعة تختلط فيها وجودية الإنسان مع الزمن والمبادئ والحب والأسطورة.. الاستعمار والعنصرية واختفاء المعنى الحقيقى للعدل، وقدرة الإنسان، الذي يدعي التحضر والمدنية، على ارتكاب أقسى وأبشع الجرائم ضد الآخر بدعاوى كاذبة، بينما العلاقة قائمة على الكذب والاستغلال حتى النخاع إلى غير ذلك من الأمور بأسلوب مشوق وممتع.

الرواية تبدو للقارئ في البداية صعبة الاستيعاب، فالكاتب يقدم عالماً مشحوناً متنوعاً في السرد والحبكة والانتقالات المقنعة والمقبولة، كما يكثر من التداخل لعوامل وحالات وأحداث يشعر القارئ فيها أنه أمام عالم مزدحم ومضغوط بأحداث وأحلام وأفكار ورؤى.

ويتطور هذا التداخل إلى اختلاط هذه الأحداث والأفكار بالأزمنة التي ربما تكون غابرة أو معاصرة أو متخيلة، فمن اصطناع الذعر والأعداء الوهميين لإبقاء الشعوب تحت سلطة الخوف من المجهول والفوضى والجوع والهلع، وعن تدمير حياة هانئة وسعيدة، باسم شعارات كبرى عن الوطن والأعداء.

يدخلنا في مشاهد الحروب المفتعلة مرة والوهمية مرة أخرى؛ ليطلع القارئ على الذرائع والمبررات التي تتشدق بها الإمبراطوريات والحكومات في ممارسة التنكيل والإرهاب بحق شعوبها، ومن خلال هذه المشاهد التصويرية، يطرح المؤلف أفكاراً فلسفية عن الظلم والحقد والطغيان واحتقار الآخر، ويتساءل عن سبب احتقار الإمبراطورية للبرابرة؛ لأن لا أساس لهذا الاحتقار سوى اختلافهم عن الآخرين.

لكن مَن هم البرابرة الذين تتحدث عنهم الرواية؟

بالنسبة للحاكم فهم "غول" الذي ينبغي إخافة الشعب منه، واستنزاف كافة الموارد في القضاء عليه، وبالنسبة للقاضي الذي تدور على لسانه الرواية، هم شعب مسكين بسيط يخدع ولا يؤذي وتربطه بالمنطقة علاقة تعايش طويلة الأمد، قوم هادئون ومسالمون، يتعرضون للنصب والاحتيال كونهم فئة غير مرغوب بها من قِبل الدولة المدينة "دولة الحضارة" التي تنعم بالعيش الرغيد.

إنهم ضحايا المستوطنين الذي يتعاملون معهم بفوقية واستعلائية، من خلال ابتزازهم وخداعهم في البيع والشراء والمقايضة، أما بالنسبة للقارئ فسيكتشف أن قصة البرابرة مستمرة حتى يومنا هذا في كل مكان، وهذا في رأيي ما دفع الكاتب لعدم تحديد زمان أو مكان الرواية.

الأحداث تجري في بقعة حدودية صحراوية من إمبراطورية عظمى لا اسم لها في مدينة صغيرة لا اسم لها أيضا وفي حقبة زمنية بعيدة عن التطور والحضارة؛ حيث يذهب العقيد جول من "المكتب الثالث" إلى المدينة؛ ليحقق في تعديات البرابرة الذين يهددون الإمبراطورية، فيجد أن القاضي الذي يدير شؤون المدينة ويجمع الضرائب ويحل الخلافات الصغيرة بين أهل البلدة، يعيشون حياة هادئة، ويعتبرون أن الحديث عن خطر البرابرة، مجرد صدى يسمعون به ولا يعرفونه.

يعلن العقيد حالة الطوارئ على الحدود، حيث إن الإمبراطورية مهددة بهجوم "البرابرة"، وأن هناك حملات عسكرية قادمة لصد العدوان وحماية الحدود، يبدأ بالاعتقالات العشوائية والتحقيق والتعذيب؛ لكي يستخلص من أناس بدائيين، يشتغلون بالرعي والزراعة البسيطة، اعترافات بأخطار وهمية ومؤامرات ضد الإمبراطورية.

لا يقبل القاضي هذه الأوهام ويقف ضد التعذيب والإرهاب الذي يحول المدينة إلى معتقل كبير، يمارس فيه عمليات تعذيب لا مبرر لها، لكن الإمبراطورية تحتاج إلى الحرب لتبرز قوتها، وترهب شعبها قبل البرابرة، هذا الوضع وهذه الأفكار تتعارض مع حياة وأفكار القاضي الذي يريد أن يعيش في هذه البلدة حياة هادئة، فيرفض الحديث عن خطر البرابرة.

يقول القاضي في حديثه مع نفسه الذي لا ينقطع طوال الرواية: "أتمنى لو أن هؤلاء البرابرة يثورون ويعلموننا درساً من أجل أن نتعلم احترامهم، رغم أننا هنا منذ مائة عام أو أكثر فإن هذه بلادهم ونحن بالنسبة لهم زوار عابرون، يوماً ما سيكون علينا الرحيل".

تنتهي الحملة العسكرية ويعود الجنرال إلى العاصمة، ويبقى عدد كبير من البرابرة الذين أطلق سراحهم في المدينة يتحولون إلى مشردين ومتسولين.

وبطبيعة الحال لا يستطيع القاضي أن يصلح الدمار والخراب الذي أحدثه البرابرة فمن الصعب إصلاح النفوس التي دمرتها الحروب وانتهاك حقوق البشر، وهذا ما حصل في هذه المدينة.

ويعبر الكاتب عن ذلك بقوله: "وشيئاً فشيئاً أفرغت الأعمال العدوانية المدينة من قواها الحية، مدينة نهبها الجنود، وأصبحت قاحلة، تنتظر بهلع هجوم البرابرة الأخير".

وتظهر المدينة، بمن تبقى من أهاليها، في الفصل السادس والأخير من الرواية، بعد هجرة معظم الناس منها، ومن ضمنهم الصيادون بجوار المدينة، حيث يعمل الأهالي بقيادة القاضي في تنظيم أنفسهم وجمع المحاصيل، وإدارة الري والتموين استعداداً للشتاء بعد أن خرب الجنرال غول حياتهم الهادئة التي عاشوها لسنوات طويلة.

إننا أمام عمل أدبي فريد، فالرواية لا تنتمي لعالم وردي جميل يحتوي على رومانسيات مثالية ينتصر فيه الخير في النهاية بكل سهولة، بل على العكس، في سطورها ستقرأ الفراق والألم والوحشية، العذاب والحيرة والتاريخ الذي يُمحى ولا يكتب لشعوب وحضارات كاملة، الظلم والحروب التي تنشأ فجأة، ستقرأ عن "صناعة الغول" من قِبل الحكومات، إنها تعبير عن الحرب بدون إطلاق رصاص، واستعارة فنية لما يعانيه الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، كويتزي كان قاسياً في انتقاده الأخلاق المزيفة للحضارة الغربية.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل