المحتوى الرئيسى

«عنف» الجعايبي وبكّار: خطاب «سلطة»

10/14 00:50

تأتي صاحبة القصة الأولى إلى الخشبة، وتحكي عن جريمة. تفاصيل غضبٍ، وتمزيق بدنٍ، وذاكرةٌ حاضرةٌ أو مغيبةٌ عنها، فصراخ. تصيح الممثلة السجينة كثيراً، ويعنّفها الحارس المحقّق كثيراً. وتصيح ويعنّف حتى يستحيل الجسم خرقةً بالية تُرمى خارج المشهد، والصوت عويلٌ متقطع، فيبدأ مشهدٌ آخر.

من الصمت والبطء، يولد المشهد الآخر كما ولد المشهد الأول. تتغيّر الجريمة. كانت امرأةً قتلت زوجها وضاعت بين وهمٍ وواقعٍ حول الجريمة، صارت أمّاً قتلت ابنها الذي كان يعنّفها بإجرام، تروي مجريات قتله بتسليم. بعد قليلٍ، ستكون الجريمة شاباً قتل عشيقه لأن الأخير أخفى مثليّته، وخرج يدينها في حياته الاجتماعية. يصيح، ويبكي، ويرفض أنه قتله، ويتداخل الوهم بالحقيقة، والصراخ بالضرب، والشهيق بالزفير. قصّة تلو الأخرى حتى التعب. التعب من الصراخ، من القصص، من العنف، ومن الضرب. ساعتان على هذا المنوال في مسرحية الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار الأخيرة، «عنف»، التي استضافها «مسرح المدينة» البيروتيّ يوم الأحد الماضي.

اسما المخرج والكاتبة - الممثلة التونسيان يقودان اللبنانيين واللبنانيات إلى المسرح من دون تردّد، حتى لمّا يكون التوقّع قد هدأ عند المتابعين /ات الدوريين /ات على مرّ السنين والعروض والعمر. ذكرى مسرحية «فاميليا» التي عرضها «مسرح بيروت» في العام 1994 تحمي الاسمين، وتترك في الذهن لهما مساحةً مع ثقةٍ بكيفية شغلهما لها. حتى ولو تغيّرا وتواضع طرحهما الفنيّ، لا بد من وفاءٍ للحظاتٍ آسرة مضت برفقتهما. ولكن عرض «عنف» أتى ليلفت إلى أن «الوفاء» الأدبيّ هذا قابلٌ لأن يتيح سلطةً تخرج بخطابٍ مقفلٍ على الجمهور، تترجمه حرفياً في نصٍّ وحركة، من دون أن تكترث لمساءلة الذات والتقنيات، تفكيك الموضوع أو تعميقه.

نصٌّ طويل بالكاد يراعي خصوصيّة الشخصيّات في سرد العنف وتبعاته. يكاد يكون أقرب إلى نصٍّ واحد، بصوتٍ واحدٍ، يتوزّع على الشخصيّات، يختلف بين مسنّةٍ وشابٍ بالسرعة في الكلام أو بالميل إلى التسليم، إذ يختلف شكلاً لا مضموناً. فالمضمون تقريباً موحدٌ، يجسّد العنف في الجريمة، يربطه بسببٍ مباشر هو الإنسان مصدر العنف، ثم يستفظعه من موقع الإنسان الذي لا يمارس العنف. فما الذي يميّز هذا عن ذاك؟ تجيب المسرحية: قرار الامتناع عن العنف (!).

في السجن الأقرب إلى المعزل النفسيّ، تخلو المونولوغات والحوارات من نواح مفاجئة في الكلام. لا نسمع العنف، وإنما صراخ المسرحية تجاه العنف. لا نرى التقاطعات فيه، وإنما إدانة المخرج والكاتبة له. لا نلمس مناسباته وإغراءاته وسياقاته، فلا تغتني المقاربة. ولذلك، يصعب تفادي الحضور الطاغي، البطريركيّ، لخطاب «عملاقي» المسرح على امتداد العرض. كأن المسرحية هي تلك الصيحة التي تصعد من صدرٍ ضاق بما يراه في مجتمعه، فلعن العنف إذ صار مرئياً، وأوجب على الإنسان أن يضبط غضبه و «يمتنع» عنه.

يمكن القول بأن المسرحية اقترحت أن الإنسان هو السبب الحصريّ للعنف (على طريقة «الزواج هو سبب الطلاق»)، نظراً لمراوحتها في هذه المنطقة. لم يأت ذكرٌ لسياقٍ آخر يشرح العنف في المسرحية. أتى فقط ذكر الثورة التونسيّة كلحظةٍ تظهّر بعدها العنف المجتمعيّ، بينما توقّع النصّ منها أن تكون لحظة تغييرٍ نحو الأفضل، والأمان، والحريّة. ولم تكن كذلك. لماذا؟ لا نذهب إلى هناك ولا نستكشف تتمات هذا القول في «خطاب» المسرحية، وإنما نعود إلى الإجابة الأولى والوحيدة: العنف مصدره الإنسان، وعليه أن «يمتنع» عن تفجيره. تلك هي العبارة المفتاحية في المسرحية، تخرج من الحارس ـ المحقّق في منتصف العرض تقريباً، وقد نقلها الرجل عن الكاتب الفرنسيّ ألبير كامو (1913 ـ 1960)، رغم توفّر مادة أكثر راهنيّة في مقاربة مفهوم العنف، في الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والسياسة...، في فرنسا وسواها. «الإنسان يمتنع»، وهذا هو حلّ مشكلةٍ يبدو وكأنها بدأت مع بدء التكوين. العنف الراهن، موضوع المسرحية، يأتي كمفهومٍ وجوديّ يغلي في البشر لا كسياقٍ يعيد صياغة حياة الناس.

المسرحية لا تدّعي التجريب، ولا هي تأتي في سياقٍ تجريديّ، وإنما هي تحكي بمباشرةٍ عن مشكلةٍ اجتماعيةٍ، وتعني نفسها بتشخيصها. من هنا، يأتي نقد الخطاب الذي ترفعه التزاماً بمنطق المسرحية، وليس تجاوزاً أو فرضاً على نصٍّ حرّ. في «خمسون» أيضاً، مسرحيتهما الأخيرة في بيروت قبل «عنف» وقد عرضاها في مسرح «دوار الشمس» (2008)، حكى المسرحيّان خطاباً سياسيّاً شديد المباشرة ينعى الانتقال من اليسار التحرّري إلى الإسلام التكفيريّ في مقاربة القضايا الشخصيّة والوطنيّة. هنا، الموضوع هو العنف في المجتمع. وبينما امتلكت «خمسون» تبديلاتٍ بالتشكيل والحركة على الخشبة تشغل العين فترافق الخطاب السياسيّ (بإعجابٍ أو من دونه) لمدةٍ لا تقلّ عن الساعتين أيضاً، فإن «عنف» أتت بتكرارٍ لحركةٍ اعتادها المرء من الثنائيّ ومن ماضي المسرح. المفاصل التي تتكسّر، الحنجرة التي تُجرَح صياحاً، الأجسام التي تتشظى، البطء الذي يسبق العاصفة، العاصفة التي لا بد أن تأتي كذروةٍ لكلّ مشهدٍ، ثم الختمة الانهيارية. قصّة تلو الأخرى، حركةٌ تلو الأخرى.

بالتوازي مع التكرار في بناء المشاهد، بُني النصّ بدوره على سردٍ متتالٍ لجرائم يتكرّر في كلّ قصة، مع لحظة ذروةٍ في منتصف كلّ سرد. هي جرائم ذات عمقٍ مجتمعيّ، كالعنف ضد المرأة والمثليين، التحرّش والاغتصاب، قتل المعلّمة، السلطات الذكورية و «الأخلاقيّة» ورافعاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والعسكرية... شبكةٌ كاملةٌ من المصالح ينهض عليها العنف في كلٍّ من هذه الجرائم. هذه القوى المترسخة في المجتمع، عاداته وتقاليده، مفاهيمه الدينية والمدنية، لا تولد هكذا بالناس وتستمر معهم فقط لأنهم لا «يمتنعون». هناك طبعاً الإنسان وخياراته، لكنّ هناك استثمارات وسلطات في هذه المعادلات، مستفيدين ومحظيين، وهناك ضحايا ومقاومات لها. العرض رمى العنف الاجتماعيّ في النفس البشريّة وحدها، لم يفكّكه رغم أنه جعله عنوانه. وبالتالي، رمى الحلول في إتقان فن «التمنّع».

لعلّ أخطر ما في العرض هو إعفاؤه البنى العنفيّة، إن تلك التي نتبناها اجتماعياً أو تلك التي تُفرض علينا، من مسؤولياتها المحورية في إنتاج العنف. مثلاً، الذكورية هي شبكة مصالح أساسيةٍ، وتعنيف المرأة في المنزل لا يأتي عرضاً من خارجها، ولا هو يأتي بلا غايةٍ (تأسيس الجماعة الحامية للنظام بالترابط الذكوريّ، مثلاً). ومن تعنيف المرأة في المنزل، تتضح زعامات الشوارع و «تقاليد» المجتمع، التي تحرق المثليين وتتحرّش وتغتصب وتدرّب التلاميذ على رفس سلطة المعلّمة عليهم بإخراسها، بالقتل. هذه الترابطات السريعة ليست عصيةً على أيّ باحث /ة في العنف، لكن المسرحية تجاهلت تماماً بنى العنف المتأسسة والممولة والواعية في السلطات والمجتمعات، وحمّلت الفرد مسؤولية العنف، في خطابٍ لا يفكّك وإنما «يصرّح» و «يؤكد».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل