المحتوى الرئيسى

يوسف العاني.. وصية عصر

10/11 23:47

«اتركوني أعيش بقية عمري هنا بالمستشفى، بديت أحس اكو تناقض بيني وبين العالم الخارجي، تناقض مخيف مرعب، هذا العالم الخارجي اللي الأخ بيرفع مسدسه بوجه أخوته. خلوني شكراً لكم، كل بيوتكم هي بيوتي، بس أني عشت على قيم غير هاي القيم وإذا اجي أعيش على قيم أخرى اتحطم، وبصراحة أحسن بيت اللي اسكن فيه هو القبر» كلام اداه الممثل يوسف العاني في مشــهد مسرحي لعــبه على سرير الموت، كان هذا فصلاً في مسرحية لكن مع وفاة الفنان الكبير أمس بدا وكأنه وصية العاني الأخيرة. الفنان الذي بلغ التاسعة والثمانين وظل متعلقاً بالمسرح إلى أن فارق الحياة.

كان ايقونة في الحياة المسرحية العراقية. لم يكن العاني عابراً في المسرح كان قطباً فيه، بل لعلنا إذا راجعنا حياته سنجده أفنى في هذا الفن 70 عاماً ونيفاً. اسمه يطبع التاريخ الحديث لهذا الفن الذي كان فيه فناناً كاملاً، بل تدهشا إذا تأملنا هذه الوفرة التي مارس فيها كل جوانب هذا الفن. كان ممثلاً ومخرجاً وكاتب مسرح وناقداً فنياً وفي كل واحد من هذه المجالات كان مبرزاً وفريداً، بل هو أرسى في كل من هذه المجالات تقاليد وقواعد.

اخرج عشرات المسرحيات ومثل في عشرات المسرحيات وكتب عشرات المقالات في النقد المسرحي وكتب للمسرح خمسين مسرحية كاملة، فنحن نرى فيه بدون شك ورشة مسرحية كاملة ونحن لا نجد فنا مسرحياً إلا وله بصمة فيه فبالإضافة إلى ذلك كله شارك في كتابة وتمثيل مسلسلات التلفزيون. يمكننا ان نودع مع يوسف العاني تاريخاً للمسرح العراقي ورائداً شارك في تأسيس هذا المسرح وفي توطيده وفي إعطائه طابعه الخاص الذي جعله واحداً من أهم المسارح العربية.

يترك يوسف العاني للمسرح العراقي والعربي تراثاً ينبغي العكوف عليه والنبش فيه ليستقيم لا للمسرح العربي فحسب تاريخ، بل للمسرح العربي ككل. نقول هذا في وقت نشعر فيه ان هذا الفن كان طفرة في حياتنا الفنية والثقافية، سرعان ما خبت أو كادت تخبو، لا نجد الآن جيلاً جديداً من الكتّاب المسرحيين في الوقت الذي حظينا فيه بجيل اسبق من الكتّاب كان فيه يوسف ادريس وميخائيل رومان وسعد الدين وهبة وسعدالله ونوس وعصام محفوظ وآخرون بالطبع، وعلى كل حال لم يترك أي من هؤلاء خمسين مسرحية كما ترك يوسف العاني. مع العاني وسواه من بناة المسارح العربية في شتى اقطار العرب نعثر على كلاسيكيات المسرح وأسسه، كما نعثر على الزمن الخصب وربما الذهبي لهذا المسرح، فيما نجد أنفسنا الآن في فترة انقطاع أو نكاد. لقد تناغمت هذا الحقبة مع أخرى في العالم مر العمل المسرحي فيها بانقلابات هزته وجعلته على الحافة. كان هناك بريخت ومارخولد ومسرح الشمس ومسرح العبث، والآن لم يعد الفن المسرحي في طوره الخصب والذهبي. لقد شحب في العالم ومن الطبيعي ان يشحب في العالم العربي الذي يعيش في علاقة ماسة ومباشرة مع ما يجري حوله.

لذا يمكننا مع رحيل العاني ان ننعى فترة خصبه من المسرح العربي ومع غياب جيل المؤسسين نجد أن لا أثر بعد لهذا التأسيس، وان الراحلين، واحداً تلو الآخر، لم يتركوا وراءهم تراثاً يمكن البناء عليه والانطلاق منه. كأن المسرح الذي لم يكن عربياً في الأساس والذي لا نجد سوابق له في ثقافتنا وفنوننا إلا أقل القليل. سافر عنا ولم يترك بذوراً حقيقية وحصاداً فعلياً. انه يرحل كأن لم يكن، او انه ظل غريباً وراح غريباً وهاجر غريباً. هل بقي المسرح العربي هكذا، لم يتوطن ولم يؤسس أو يتأسس، وإلا فما معنى ان لا يجد الجيل اللاحق ما يرثه ويبني عليه، ما معنى ان لا يترك الجيل الأسبق ما يمكن ان نواصله وان نبدأ منه.

بعد كل هذا الماضي المسرحي لا نزال نبحث عن اين نبدأ، ما زلنا لا نجد بداية صلبة نخطو منها. هل هي غربة المسرح الذي بقي غريباً. اذن ما هو مصير الرواية والسينما والتصوير وكل هذه مجلوبة وليس لها تراث. هل يكتب لها ان تبقى غريبة وان يأتي يوم لا نجد مكانها سوى عراء فظيع. مجرد خلاء ليس أمامه ولا وراءه شيء.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل