محمد الحجري يكتب: حُب الحكمة.. ما لا يسعك جهله عن «فيلوصوفيا» | ساسة بوست
منذ 11 دقيقة، 10 أكتوبر,2016
لا بد أنك – مثل أي شخص لديه أدنى حد من الفضول – قررت في يوم من الأيام قراءة كتاب في الفلسفة، الطبيعي في تلك الحالة أن يحدث شيء من اثنين:
إما أن يكون الكتاب تخصصي بشكل كبير مثل «إرادة القوة» لنيتشه مثلًا وذلك يحتاج إلى خلفية فلسفية سابقة، لأنك إن لم تمتلكها، تأكد أنك سترمي الكتاب في أقرب سلة للمهملات بعد أول 10 صفحات!
أو أن يكون الكتاب لغرض التبسيط وإعطاء خلفية عامة عن الفلسفة مثل كتاب «تعلم الحياة» للوك فيري، أو كتاب «تبسيط الفلسفة» أو كتاب «مدخل إلى عالم الفلسفة»، … إلخ.
الغرض الرئيسي من هذا المقال مساعدة النوع الأول في تخطي عقبة المصطلحات العلمية التي غالبًا لا يسعى الفلاسفة لشرحها، بالإضافة إلى أنني أزعم أن ما سيتم ذكره في هذا المقال هو مما لا يسع لأي قارئ في أي مجال أن يجهله، فمصطلحات مثل «الحداثة»، «التنوير»، «ما بعد الحداثة»، «المادية والتفكيك»، تُستخدم تقريبًا في جميع التخصصات العلمية الأخرى مثل علم النفس والعلوم السياسية وعلم الاقتصاد، … إلخ.
بل قد تجد أنه يتم استخدامها في الخطاب الديني المتجدد حاليًا.
اختلفت التعريفات لمعنى الفلسفة، ولكن يمكننا أن نُجمع على أن التعريف النظري لمعنى كلمة فلسفة قادم من الكلمة اليونانية «فيلوصوفيا»، «فيلو» تعنى حب، و «صوفيا» تعنى الحكمة، بمعنى أن الفلسفة هي «حب الحكمة».
ولكن ماذا عن المعنى الاصطلاحي؟
أول ما يرد إلى ذهنك عن وظيفة الفلسفة هو «التفكير» أو «التحليل المنطقي» للأشياء، و لكن على عكس المتعارف عليه. كانت الفلسفة منذ عهد اليونانيين تحل محل العقيدة الدينية، بالطبع هناك الكثير من التفكير والتحليل بالفلسفة، ولكن ذلك لا يتعدى دور الوسيلة.
أما غاية الفلسفة الحقيقية هي البحث عن «عقيدة للخلاص»، أي الوصول إلى جواب منطقي للسؤال الذي لا يمكن للإنسان تجاهله من أجل إكمال حياته،
لذلك نرى الفيلسوف الفرنسي مونتاي يعرف الفلسفة: «التفلسف هو تعلم الموت!»
عند الوصول إلى جواب مقنع للخلاص يجب أن تحقق الفلسفة أبعادها الثلاثة:
– فهم ما هو قائم في الحياة «النظرية».
– كيفية التعامل مع ما هو قائم «الأخلاق».
– البحث عن الخلاص «الحكمة» .
ظهرت الفلسفة في البدء خلال القرن السادس قبل الميلاد على يد اليونانيين، قبل ذلك كانت هناك حضارات عدّة ولكنها كانت تُوَكِّل إجابة المحاور الثلاثة للأديان القديمة.
بدأت الفلسفة الرواقية على يد زينون في القرن الثالث قبل الميلاد، و كانت الفلسفة تمثل «القفزة الفكرية» في التاريخ، فبشكل ما أينع التفكير وتفاقمت الحرية في إبداء الأراء، وانبثقت الحُجج من الأقطاب المتناحرة والمختلفة داخل أثينا، كما في ساحة «آجورا» الشهيرة، و من أجود ما جاء في هذا مناظرات سقراط والسفسطائيون.
أجابت الرواقية عن المحاور الثلاثة (النظرية والأخلاق والحكمة).
حيث كانت النظرية ببساطة هي «التيوريا» وهي كلمة يونانية تعني «أنا أرى الأمور الإلهية»، أي أنني
أبحث في مدارات الكون عن «التناسق» الذي يدل على أنه إلهي، و من هنا استفحل قانون «وحدة الوجود»، أي أن الإله يقبع في الكون، أو بمعنى آخر أن تعتبر أن الكون كله كائن عظيم، وهذا الكائن ما هو إلا الإله ذاته، وذلك الإله يطلقون عليه اسما ما، و هو «كوسموس».
وكان سر تعظيم اليونانيون للكوسموس أنه يخضع لـ«اللوجوس» أي المنطق، أي أنه يمكن فهم هذا التناسق عقلانيًا، كما أنه لا يمكن نسبة هذه الأفعال في الكون للقدرة البشرية، لذلك لابد أن كل هذا الجمال والمنطقية ما هو إلا صورة لما هو إلهي.
ومن هنا مُهِّد الطريق للأخلاق عند الرواقيين، حيث أن الأخلاق كانت ببساطة مستقاة من التناسق في الكون ذاته، حيث يراقب الفيلسوف الطبيعة ويستنبطون منها الأخلاق التي توافق نظريتهم.
حتى الآن لم تصل الفلسفة إلى ضالتها، أي الحكمة، أو عقيدة الخلاص التي تضع إجابات مرضية لما سيحدث بعد الموت.
وعقيدة الخلاص عند الرواقيين لها شكلان:
١- البحث عن الديمومة، أي عن الخلود، وذلك عن طريق القيام بأعمال عظيمة تستحق أن يذكرها التاريخ، وبالتالي ستمثل خلودًا نسبيًا للشخص، على سبيل المثال قصة أخيل في حرب طروادة التي مازلنا نتداولها حتى الآن، و لعل هذا هو السبب لبروز المؤرخين العظماء في اليونان مثل توسيديد وهيرودوت.
ومن أفضل التعليقات التي وصفت تلك العقيدة: «لو كان الزائلون ينجحون بإضفاء بعض الديمومة على آثارهم وأعمالهم وأقوالهم، و بنزع صفة الزوال عنها، لكان بوسع هذه الأشياء العبور والتوصل إلى مكان لها في العالم المستمر أبدًا، ولكان بوسع الزائلين أنفسهم إيجاد مكانهم في الكون حيث كل شىء خالد باستثناء الإنسان».
٢- الانتقال إلى الكوسموس، أي أن الموت هو مجرد مرحلة للعبور إلى عالم آخر، والامتزاج مع هذا العالم كليًا، و عبر أبيكتات عن هذا تعبيرًا بليغًا: «الهجرة ليست إلا تبدلًا بسيطًا، بينما الموت تبدل أكبر لكنه لا يذهب من الوجود الحالي إلى عدم الوجود المطلق، بل إلى عدم وجود الكائن الحالي، لن تكون ما انت عليه الآن، بل شيئًا مختلفًا سيكون العالم عندئذ بحاجة إليه».
ظهرت الحداثة بعد القفزة العلمية العملاقة التي شهدتها أوروبا في خلال القرن ال ١٦ وال ١٧، كُتب «كوبرنيكس» و«غاليليو» التي نقضت الفكر الأرسطي المُتبنى من قبل الكنيسة لأكثر من ١٥ عشر قرنًا بالإضافة إلى قوانين نيوتن التي فسرت «الكوسموس» تفسيرًا رياضيًا يدل على أن التناسق في الكون مجرد علاقات رياضية ليس لها غرض معين.
كل تلك العوامل بجانب تأسيس «ديكارت» للتفكير النقدي الذي يدعوا للشك في كل المسلمات الأولية المُنتقلة لنا من غير تفكير أو تمحيص، كان كفيلًا بهدم كل عقائد الخلاص التي إعتنقتها أوروبا على مر التاريخ، و من هنا بدأ عصر التنوير.
اعتمدت النظرية في الحداثة بشكل كبير على «العلم التجريبي»، و هو علم تم استنباطه من العلماء المسلمين في الشرق وبشكل خاص العالم «جابر بن حيان» صاحب أول معمل كيميائي في التاريخ، و تم تشجيع هذا المنهج من قبل الفيلسوف كانط في كتابه «نقد العقل الصافي»، حيث لم تقنع الفلسفة بعد الآن بمجرد التأمل والإعجاب بالكوسموس، بل سعت إلى تفسيره وربطه ببعضه البعض عن طريق التجربة والاستقراء.
بينما الأخلاق انتقلت من اعتمادها بشكل رئيسي على طرف آخر مثل الإله أو الكوسموس، إلى الاعتماد على الإنسان ذاته وأن يُضحي هو مركزية الأخلاق، حيث انتقل روسو وكانط عن طريق ثلاث نتائج وهي:
– (التاريخية الإزدواجية)، أي أن هناك تاريخان لأي انسان، الأول هو التاريخ الفردي للشخص فيما يُدعى «التربية”، والثاني هو تاريخ الجنس البشري فيما يدعى «الثقافة والسياسة».
– (الوجود يسبق الجوهر)، أي أن كل البشر متساوون مهما اختلف جوهرهم أو عرقهم.
– (الإنسان كائن معنوي)، أي أنه حر ومسؤول عن أي فعل يرتكبه غير أسير لغريزته.
وانطلاقًا من تلك المبادئ، أضحت الأخلاق غير متعلقة بتحقيق الخير للفرد الواحد أو العرق الواحد أو الدولة الواحدة، بل إلى الإنسانية كافة، وألمع نتائج تلك الرؤية الجديدة اتفاقية «حقوق الإنسان» الشهيرة في القرن الثامن عشر.
بينما عقيدة الخلاص في الحداثة تمثلت في «المُثل العليا» أو بتعبير أدق «الأديان البديلة»، فأصبح الموت من أجل «الوطن»، أو «الماركسية»، أو بذل العمر في «المذهب العلمي»، يسبب نوع من الرضا قبل الموت، ولكنه ما يزال قاصرًا عن إجابة السؤال الأهم «ماذا بعد الموت؟».
3- ما بعد الحداثة (نيتشة)
يمكن اختصار نظرية «ما بعد الحداثة» بكلمة واحدة، «التفكيك».
كان نيتشه يمقت كل الديانات والمُثل العليا، ويرى أنها تحول تركيز الإنسانية إلى شيء ما ورائي وتهمل الواقع، لذلك سماها «العدمية»، أي أنها تُفقد الواقع قيمته.
وعبر نيتشه عن ذلك: «ليس هناك من وجود متعال،كل رأي هو مظهر من مظاهر الحياة، انبعاث من الحياة التي هو جزء منها ولا يمكن أن يكون موقعه خارجها».
ولم يكتف نيتشه بدحض الديانات فقط، بل دحض فلسفة الحداثة وعصر التنوير لأنها أبدلت الديانات بالمُثل العليا، واعتبر أن الديمقراطية والإنسانية مجرد امتدادات لتلك الديانات ويجب التخلص منها.
حيث تعتمد النظرية عند نيتشة على قبول الواقع كما هو، و عدم تفسيرة بأي نوع عقلاني (علمي) أو ماورائي (ديني).
بينما الأخلاق تعتمد بشكل خاص على «الأسلوب العظيم»، حيث قسم نيتشة القوى بداخلنا إلى قوتين «القوى المتفاعلة» مثل القيم التربوية وتأثير المجتمع علي أفعالنا، و«القوى الفاعلة» وهي القوى الحرة غير القابلة للتأثر بأي شيء خارجي مثل الفن.
ويصف نيتشه هذا الأسلوب: «القدرة على السيطرة على الفوضى الداخلية، على إجبار هذه الفوضى على اتخاذ شكل، أن تتصرف بطريقة منطقية، بسيطة، حاسمة ورياضية، أن تجعل من نفسك قانونًا، ذلك هو الطموح الأكبر».
Comments