المحتوى الرئيسى

الصديق التركي والحروف العربية

10/10 12:17

هذا أحد أطرف الشخصيات التي عرفتها وأضخمها أيضاً، كان اسمه داود باششجي، ويكتب موضوعاً للدكتوراه في مقارنة الأديان، وكان بالطبع يتقن الألمانية والتركية ويعرف الإنجليزية، لكن عُقدته الأساسية كانت في اللغة العربية، ورغم أن لغته العربية كانت سيئة جداً، فإنه لم يتوقف يوماً عن دراستها، ولا عن مطاردتنا بالجمل العربية التي كان يقضي وقتاً طويلاً في تركيبها، فيفسدها، وتنقلب عليه بالفكاهة.

ورغم ذلك لم ينهزم أبداً، وكان يضحك من نفسه ضحكنا منه، وظني أن عقله اليقظ ونفسه السمحة وحبه للحياة جعلته يتحمل كل هذه الغمزات واللمزات حول ضخامته وقدراته اللغوية بصدر رحب.

وكانت الفتيات الألمانيات يعابثنه ويتباسطن معه، وأذكر أن إحداهن، وكانت تعجب بتعليقاته وفكاهاته، قالت له مرة: "فقط لو توقفت عن أكل البقلاوة ستكون أجمل شاب رأيته في حياتي".

وكنت أراه بشكل شبه يومي، ونجلس كل خميس معاً في سلسلة المحاضرات الأسبوعية التي يسَّرت لنا رؤية كبار المستشرقين الألمان وأساتذة العلوم الإنسانية، والاستماع إليهم ومجالستهم والأخذ عنهم، وهنا فقط كنا -أنا والصديق التركي- نتجاذب أطراف الحديث بجدية أكبر.

وكنت تتبين مدى ذكاء هذا الصديق التركي وعلو كعبه في تعليقاته الألمانية الذكية والجريئة على ما يقوله هؤلاء المحاضرون الكبار، أذكر في إحدى المرات أن جاءت محاضرة متخصصة في تاريخ فلسطين، وتحدثت طويلاً عن مصادر التاريخ الفلسطيني الحديث من أولى الروايات الشفهية حتى الروايات الأدبية، وبعد المحاضرة جاء تعليقه الجريء، هكذا: "والله هؤلاء اليهود الصهاينة معدومي الذكاء، وما إقامتهم لدولة في فلسطين إلا مظهر لسلوك انتحاري قومي. فهم لم يبقوا عبر القرون الماضية إلا لأنهم متفرقون موزعون في كل نواحي الكرة الأرضية، فلم يتمكن أحد -حتى هتلر- من التخلص منهم وإفنائهم بضربة واحدة، والآن ماذا يفعلون، يجمعون أنفسهم في مكان واحد ليسهلوا مهمة أعدائهم، وهذا في رأيي أغبى قرار في التاريخ اليهودي كله".

وفي إحدى المرات كانت هناك ضجة في ألمانيا بسبب اقتراح لغوي بتسهيل كتابة الحروف الألمانية حتى تناسب العصر المعلوماتي المكتسح، وذلك عن طريق تغيير شكل عدة حروف في الكتابة الألمانية، أشهرها حرف "ß" الذي سيكتبونه "ss"، وكانت معركة ثقافية صاخبة، وتأتي أخبارها في صدارة النشرات الإخبارية الألمانية.

وأذكر أن الكاتب الألماني الشهير جونتر جراس - نوبل الآداب 1999- كان ضد الموضوع، وينافح عن ضرورة إبقاء الشكل القديم لهذا الحرف.

وفي تلك الآونة جاء مستشرق ألماني معروف ليحاضر لنا عن موضوع "التأثيرات الفرنسية في المشرق العربي"، وكان هذا المستشرق مع عدم التغيير أيضاً، ويرى أنه سيفشل، وضرب مثالاً بفشل دعوة الحقوقي والسياسي المصري عبد العزيز فهمي، في النصف الأول من القرن العشرين، للاستغناء عن الحروف العربية، والكتابة بالحروف اللاتينية.

وكانت دعوة خائبة فاشلة، وقد رفضها مجلس مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1943، وقد تراجع عنها صاحبها فيما بعد، وفي المساء وتلبية للدعوة التقليدية ذهبنا بعد المحاضرة إلى مطعم "الفيلد روزا"، وجاء مجلسي بالقرب من مستشرقة ألمانية معروفة، تحدثت مع الضيف قليلاً، ثم التفتت ناحيتي وداود بجانبي، وسألتني: "وأنتَ يا فلان ما رأيك في موضوع استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية؟"، وقبل أن أفتح فمي، هجم صديقنا التركي مجيباً:

"يا سيدتي.. معذرة يا فلان، يا سيدتي أنتم كألمان تتعاركون الآن بسبب تغيير شكل حرفين ألمانيين تغييراً سطحياً، وأنت نفسك كما عرفت ضد هذا التغيير، فكيف تتوقعين أن يتقبل ثلاثمائة مليون عربي دعوة أحد المهزومين حضارياً كعبد العزيز فهمي لتغيير كل الحروف العربية.

ولو حدث هذا فماذا سيبقى لهم ليفتخروا به؟! أرجو ألا يغلطوا غلطتنا نحن الأتراك ويتخذونا عِبرة، يا لها من جريمة ارتكبها أتاتورك في حقنا! ما زلت أذكر أبي عندما كان يأخذنا للمقابر وأتذكر حزنه الشديد؛ لأنه لا يعرف كيف يقرأ أسماء أجداده على لوحات المقابر الرخامية، فقط لأنها مكتوبة بحروف عربية أو عثمانية، كما نقول عندنا.

لم نعد نستطيع كأتراك قراءة تراثنا التركي العثماني؛ لأنه مكتوب بحروف عربية، لم نعُد نعرفها، ولتعلمي أن تغيير شكل حرفين أو ثلاثة لديكم لن يؤثر كثيراً على اتصالكم بتراثكم، وهو قصير لا يتجاوز ستة قرون، ومع ذلك ترفضون هذا التغيير البسيط، أما تغيير الحروف العربية كلها فسيقطع صلتنا مع تراث يمتد لأكثر من ستة عشر قرناً أو يزيد.

ولو حدث هذا ستموت العربية، وسيتحقق لكم كمستشرقين فرصة دراستها كلغة ميتة كاليونانية واللاتينية واللغة المصرية القديمة".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل