المحتوى الرئيسى

«سأظلّ أعلّمهم الرقص»

10/10 00:59

بعيداً عن انتخابات المجالس المحليّة الفلسطينيّة (البلديات) وتداعيات تأجيلها تارةً واستثناء قطاع غزّة والقدس منها تارةً أُخرى، وبعيداً عن قرار المحكمة العليا الأول بإلغائها ومن ثم قرارها الأخير بتنظيمها في الضفّة الغربية فقط من دون غزّة والقدس، وطلبها من الحكومة البتّ في موعد تنظيمها.

ومع أن موضوع الانتخابات لا يزال يُعتبر موضوعاً ساخناً في الشارع الفلسطينيّ، وخصوصاً في أعقاب قرار المحكمة الأخير هذا، كونه يعكس مدى اعتراف كلٍّ من سلطتَي الأمر الواقع بشرعية محاكم الآخر أو ربما يمكن القول بشرعية الآخر، وشعور كلّ طرفٍ بالتهديد الذي تشكّله الانتخابات على شعبيته بالمطلق أو في منطقة دون أخرى.

سأتوقف في هذه المقالة عند بعض ملامح الدعاية الانتخابيّة اليتيمة التي ظهرت قبيل قرار المحكمة الأول في 8 أيلول 2016 القاضي بإلغاء الانتخابات المحلية. ومن ضمن تلك المنشورات والصور الدعائية، أتوقف عند لافتةٍ حملها شابٌ كُتب عليها هاشتاغ #كيف_صارت، وقالت اللافتة: «صاروا أطفالنا يتعلّموا على السلاح بعد ما كانوا يعلّموهم الرقص». هذا الشعار هو واحدٌ من شعاراتٍ عدّة تأتي في سياق يوضحها، أذكر منها هنا: «مساجدنا صارت أكثر وأحلى»، و «ما عاد عنّا مراقص وملاهي وخمارات». هذه الشعارات وغيرها أطلقتها قوائم «حركة حماس» في قطاع غزّة، في إشارةٍ إلى أن الحكم القسريّ لـ «حماس» في القطاع محميٌّ بالإرادة الشعبية، بالناس. وإذ تفتقد هذه الإشارة إلى أداة قياس تؤكدها، وفي ظل وجود سياقٍ اعتراضيّ داخليّ يفيد بأن «حماس» تحكم القطاع بالإكراه، فإن غرض هذه المقالة ليس الخوض في نقاشٍ حول طبيعة حكم «حماس» لغزّة.

أمام هذه اللافتات، عدتُ بالذاكرة إلى الوراء، وتحديداً إلى سنة 1997، عندما شاهدت الفيلم الرائع للمخرج المصري يوسف شاهين (1926-2008) «المصير»، وقد سلّط الضوء فيه على تجربة المفكّر الإسلاميّ الكبير إبن رشد في صراعه مع الجماعات المتطرّفة من جهة ومع السلطة من جهة أُخرى، في القرن الثاني عشر. فكان قاضي قضاة قرطبة إبن رشد يؤمن بالاجتهاد، في حين أن خصومه تمترسوا حول أفكار السلف، ما أدّى إلى إحراق مكتبة إبن رشد وكتبه، كما ذبح حنجرة المغني (محمد منير) في الفيلم بعدما غنّى:

«علّي صوتك بالغنى / لسّة الأغاني ممكنة / ولو في يوم راح تنكسر / لازم تقوم، واقف كما النخل باصص للسما / ولا انهزام، ولا انكسار، ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا».

ردّاً على شعار «السلاح والرقص»، كتب خالد عليان على صفحته على «فايسبوك»: «سأظل أعلمهم الرقص». وخالد عليان هو مدير سريّة رام الله الأولى ومدير مهرجان رام الله للرقص المعاصر وناشط ثقافي. كما كان «ضيفاً» مقيماً في سجون الاحتلال. وخلال الاعتقالات المتكررة، علّم خالد الأسرى الدبكة الشعبية، وشكّل فرق الدبكة داخل السجون التي سمحت للأسرى بإحياء المناسبات داخل غرف وخيام اعتقالهم.

قال لي الصديق خالد إن أشكال التعبير متعدّدة، ومن ضمنها التعبير بالجسد، أيّ بالرقص الذي يُعتبر أحد أكثر أشكال التعبير تميزاً في فنونه. لذا، لن نحرم أطفالنا وشبابنا وشاباتنا من ممارسة هذا الشكل من التعبير، نظراً لوجود مَن يعتقد بأن ثقافتنا لا تحتمله أو تعتبره حراماً.

من خلال مهرجان رام الله للرقص المعاصر، تمكّن الشباب الفلسطيني في الضفّة من الانفتاح على ثقافات العالم المتعدّدة، من تلك العربية إلى الأوروبية وثقافات الأميركيّتين. فقد استضاف فرق رقصٍ مشهورة على نطاقٍ عالميّ، منها: فرقة أكرم خان من بريطانيا، وفرقة ساشا فالتس من ألمانيا. في المقابل، ومن خلال هذا المهرجان الذي يُقام سنوياً منذ العام 2006، استطعنا نقل الثقافة الفلسطينية إلى العالم، لا بل أصبح مهرجان رام الله للرقص المعاصر جزءاً من شبكة «مساحات»، التي تشمل مهرجانات الرقص المعاصر في الأردن ولبنان وسوريا.

على المستوى المحلي، أمّ الجمهور الفلسطينيّ الآتي من مختلف الأوساط عروض هذا المهرجان بانتظامٍ سنويّ، وبأعدادٍ كبيرة، وباهتمامٍ متزايد. ومؤخّراً، صار المهرجان يتنقل بين مدنٍ فلسطينية عدّة.

أتاح هذا التبادل المعرفي للعديد من الشباب والشابات الفلسطنيّين/ات الالتحاق بمعاهد رقص عالمية مكّنتهم بدورها من الالتحاق بكبريات الفرق العالمية، ونذكر منهم/ن: فرح صالح، وسلمى عطايا، ويزن عويضات.

«سأظلّ أعلّمهم الرقص»، هي صرخةٌ في وجه التناقض والانفصام والفجوة الثقافية التي تنتجها أوساط الإقصاء الظلامية التي تطالب من جهة بتحرير الأرض والشعب وتفرض من جهة أخرى على شعبنا أن يبقى رهينة قيمٍ ينتجها جهلٌ، وتُستخدم في الصراع على السلطة، بغض النظر عن أيّة سلطة، سواءً كانت سلطة العائلة، سلطة الدولة، أو سلطة السلطة.

Comments

عاجل