المحتوى الرئيسى

محمد صالح يكتب: حذاء الجبالي ودولة القانون

10/09 12:30

في دولة (س) المتقدمة، تتغير دورية الحراسة في المطار الدولي لهذه الدولة بشكل روتيني كل ثمان ساعات. يدخل طاقم الدورية الجديد بضباطه على اختلاف رتبهم وخبراتهم وموقعهم التنظيمي إلى المنطقة المحظورة على الجمهور بعد تفتيش كامل من قبل زملائهم في الدورية السابقة، تحت أعين رقابة الكاميرات الموضوعية الصارمة التي تسجل كل همسة ولمسة والتفاتة.. بلا حساسية، وبلا عقد نقص، وبلا “إنت ما تعرفش أنا مين ياض؟”، يقوم الملازم المعيّن حديثاً بتفتيش رائد أو مقدم أو حتى عميد ولواء.. النظام في دولة (س) الديمقراطية الحديثة هو النظام على الكبير قبل الصغير.

أمام ذلك المشهد يحس جمهور المسافرين بضرورة الخضوع لأكثر أنواع التفتيش صرامة، وينصاعون لسلطة شرطة المطار، لأن شرطة المطار تضرب لهم أروع مثال على المساواة والعدل وسيادة دولة القانون.

في ظل نظام كهذا، حينما يقع تحت أيدي الشرطة أحد المرضى ممن يعانون من النرجسية أو البارانويا ويحاولون الإفلات من جزء ولو هين من إجراءات التفتيش، فإن المثال حاضر، والجمهور قبل الشرطة يدافع عن دولته، ويدافع عن منجزاته في مجال العدل والمساواة، ويدافع عن أمنه العام الذي يراه جزءًا لا يتجزأ من أمنه الشخصي.

هكذا تسير الأمور في دولة (س) المتقدمة والديمقراطية الحديثة، فالغني يدفع ضرائبه أكثر من الفقير، ويخضع مسئول الدولة لسلطة القانون قبل خضوع المواطن العادي لها، وعليه فإن الخارج عن القانون، والبلطجي، والفهلوي يجدون أنفسهم في مواجهة المجتمع قبل الشرطة، أو بمعنى آخر يجدون الشرطة في المقدمة وفي ظهرها يقف المجتمع بأكمله مدافعاً عن منجزاته ومكتسباته.

أما هنا في بلاد الباشوات والبهوات والأفندية.. فالباشا الكبير يتساهل مع أخيه الباشا المرتبط معه في المصلحة الكبرى، فيتّصل بفلان باشا كي يسهل له “مأموريته” حتى يتسنى لهم جميعاً “تسليك المصلحة” التي يعتقد الباشا أنها تصب مباشرة في مصلحة الوطن قبل أن تصب في حساباته البنكية السرية في لاخينشتين أو بنما، وما المانع من مليون دولار هنا، أو ثلاثة ملايين هناك طالما كانت مصلحة الدولة تقدر بمليارات الدولارات.

تحت الباشا باشا أصغر يرى ويسمع كيف “يسلّك” الباشوات الكبار مصلحتهم الوطنية من خلال وضع بضعة ملايين “على جنب لزوم الإكراميات”، فيجد نفسه مضطراً لـ “تسليك نحتاية صغرى” تقدر بمئات الآلاف من الدولارات، حتى يظل على مستوى المسئولية أمام الباشا الكبير، مظهراً هيبة وقدرة على الحركة والمرونة.

تحت هؤلاء تقبع طبقة كاملة من البهوات الكبار ممن يرضى “ببضع سبوبات صغيرة” قيمتها مئات الآلاف وربما مليوناً أو اثنين من الجنيهات في سبيل أن تمضي العجلة في طريقها إلى مصلحة الفقراء والوطن والدولة والثورة ومصر التي ستظل في نهاية المطاف “في خاطري وفي دمي”.

عشرات الآلاف تحت هؤلاء من البهوات الصغار ممن يقتاتون على بضع عشرات من الآلاف، ويشترون سياراتهم وعقاراتهم بالتقسيط من خلال عروض سخية لهاتيك أو تلك المؤسسة السيادية التي تعتني بموظفيها، وتحتهم بضع ملايين من الأفندية الكبار والصغار ممن يعيشون معنا وعينهم على قدوتهم البهوات الصغار والكبار وفوقهم الباشوات أصحاب الحظوة والمكانة والهيبة (التي تتسق وهيبة الدولة!)، وهؤلاء يقنعون فقط ببضع آلاف وربما مئات من الجنيهات.

تحت كل هؤلاء جيش عرمرم من ملايين الطفيليين ممن يقتاتون على المائتي جنيه، والخمسين جنيه، والعشرة جنيه، والخمسة جنيه، وحتى فكة الجنيه الواحد! ينظر هؤلاء جميعاً إلى من فوقهم، وحينما تحدثهم عن الحق والمساواة والعدل والثورة ومصر التي يجب أن تكون، يردون عليك رداً مفحما:

“يعني هي جت عليا أنا يا بيه؟ ما تشوف الافندي اللي فوقي!”

تذكرت ذلك الهرم المصري العتيق والعتيد، بينما أقرأ خبراً طريفاً عن المستشارة تهاني الجبالي نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقاً، التي رفضت التفتيش في المطار، واعترضت على خلع حذائها وألغت سفرها اعتراضاً على ذلك “التطاول” من قبل “بهوات الداخلية” الأقل مقاماً!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل