المحتوى الرئيسى

الاستغناء عن حرف الراء | المصري اليوم

10/08 23:40

لما كنتُ تلميذًا فى مدرسة كفر المياسرة الابتدائية، كنتُ أقدِّم خُطبًا بشكلٍ متواصلٍ فى الإذاعة المدرسية، ولمَّا كان زملائى يضايقوننى؛ لأننى أنطق حرف الرَّاء غينًا، على طريقة أهل باريس، حيث ورثتُ ذلك عن خال أمى، والذى يحمل اسم أحمد أيضًا، قرَّرتُ تجنُّبَ هذا الحرفَ فى الكلام عمُومًا، وفى خُطبى سواء أكانت مُرتجلة أم مكتوبة خُصوصًا، وكلما كبرتُ عامًا، قلَّ الخجلُ، وزادت الشجاعة والمواجهة والثقة فى النفس، وصار الأمر عندى عاديًّا، ووقتئذ لم أكن أعرف شيئًا عن واصل بن عطاء (83-131هجرية - 700 – 748ميلادية)، ذلك العارف الذى عاش فى العصر الأموى، وهو أحد تلامذة الحسن البصرى، وقد أسَّس بعد ذلك مذهب المُعتزلة، بعدما اعتزل شيخه البصرى، الذى قال وقتها: «اعتزلنا واصل»، وهو صاحب مبدأ أو نظرية «المنزلة بين المنزلتين»، وهو من أهل العقل لا النقل، الفصيح، الفطِن، حسن التصرُّف، الذى يتحرَّج مثلى من نطق حرف الرَّاء، ولذا لقِّب بالغزَّال الألثغ، وربما كنتُ أخفَّ منه وطأةً فى النطق، فقرر أن يلقى خُطبةً مُرتجلةً (صارت بعد ذلك من عيون تراث النثر العربى)، لا يذكر فيها عامدًا قاصدًا حرف الرَّاء، إذ استغنى عن هذا الحرف من اللغة، غير باكٍ عليه، وحرص على أن ينزِع الرَّاء من خطبته، واعتبرها غير موجودة أساسًا فى الأبجدية العربية.

وعلى حد قول الشاعر بشَّار بن برد «95-167 هـجرية / 714-784ميلادية»: (وجابَ الراء لم يشعر بها أحد...)، وبالفعل لم يشعر أحد من الذين حضروا الخطبة بأن الحرف العاشر من أبجدية اللغة العربية محذوفٌ منها، من دون تعمُّدٍ أو تكلُّفٍ أو إعدادٍ مسبق.

كما يذكر الشاعر صفوان الأنصارى «توفى فى 180 هـجرية / 796 ميلادية»: (... فأبدع قولاً ما له فى الورى ندٌّ، فما نقصته الراء إذ كان قادرًا.. على تركها واللفظ مطرّد سَرْد).

وقال عنه المبرّد (10 من ذى الحجة 210 هـجرية /825 ميلادية، 286 هـجرية /899 ميلادية): «... كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ، قبيح اللثغة فى الرَّاء، فكان يُخلّص كلامه من الراء»، ويذكر الجاحظ (159 -255 هـجرية – ٧٧٦- ٨٦٨ميلادية): «ولما علم واصل أنه ألثغ، فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نِحْلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النِّحَل، وزعماء المِلَل… رام أبو حذيفة (وهو اسمه) إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه».

وكان من حوله يطلبون منه – قصد إحراجه - قراءة هذه الآية من سورة التوبة: «بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِى الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»، لكنه كان يقرأ عليهم: «عهدٌ من الله ونبيه إلى الذين عاهدتهم من الفاسقين فسيحوا فى البسيطة هلالين هلالين».

ويذكر ابن العماد الحنبلى أنه دُفعت إلى واصل بن عطاء رقعةٌ مضمونها: «أمر أمير الأمراء الكرام أن تُحفر بئرٌ على قارعة الطريق فيشرب منها الصادر والوارد». فقرأ على الفور: «حكم حاكم الحكام الفخام، أن ينبش جب على جادة الممشى فيستقى منه الصادى والغازى».

وقال البغدادى – وهو من مُخالفيه -: «وأما لثغه فى الراء فمن مثالبه؛ لأنها تمنع من كونه مؤذنًا، وإمامًا للقارئين؛ لعجزه؛ لقوله: أشهد أن محمد رسول الله، وأن يقول: الله أكبر، وكان لا يصح منه قراءة آية فيها الرَّاء، وكفى المعتزلة خزيا أن يكون زعيمها من لا يصح صلاتهم خلفه، وأما خطبته التى لا راء فيها، فعساه كان فى تحبيرها أياما».

ومما يُقال عن واصل بن عطاء أنه ظل أربع سنوات من خمس قضاها فى البصرة متعلِّمًا لا يتكلم أبدًا، ملتزمًا صمته، حتى ظن من حوله أنه أخرس، فسألوا عنه الحسن البصرى، فأجابهم: «إما أن يكون أجهل الناس أو أعلم الناس»، وهو بالفعل عندى من أعلم الناس.

وأثبت لكم – هنا – نص الخطبة، الذى يدلُّ على فطنة وذكاء واقتدار وثقافة ومعرفة بأسرار اللغة، كما أن النصَّ يُعدُّ وثيقةً مهمةً من وثائق القرن الثانى للهجرة.

«الحمد لله القديم بلا غاية، والباقى بلا نهاية، الذى علا فى دنوه، ودنا فى علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولايؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعد له اصطناعا، فأحسن كل شىء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شىء لعظمته، وذل كل شىء لسلطانه، ووسع كل شىء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا مثيل له، إلهاً تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعطى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصدق طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخاصته وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته، ونصح لأمته، وجاهد فى سبيله، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضياً على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.

أوصيكم عباد الله مع نفسى بتقوى الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، فأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة فى معاد. ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفوائن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شىء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلوا، ومزجت لهم سما. أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمخلبها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العز ذلاً، ومن الحيلة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تعاينُ إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحسس منهم أحد ولا تسمع لهم نَبسا.

فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلى عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون.

Comments

عاجل