المحتوى الرئيسى

الثغرة من أكتوبر ليناير

10/08 13:02

6 أكتوبر 1973 مثّل ولادة جديدة للعسكرية المصرية و25 يناير 2011 وضع الشعب أمام عجلة القيادة، فلم تستوعب السلطة أو النخب عظمة الإنجاز.

نحن أمام خطوتين بينهما حوالي 38 سنة من الاجتهاد الصائب قليلاً والخاطئ كثيراً، وتسببت الأخطاء في أن ينظر بعض أبناء شعبنا لنصر أكتوبر وكأنه انكسار أو لثورة يناير على أنها انهيار؛ بينما كلاهما إنجاز للشعب لا يتحمل أخطاء حكامه أو نخبه الأقل منه قدرة وتطلعاً ومثابرة وإبداعاً.

لم تكن أهداف الشعب المصري أكثر وضوحاً وتحديداً مما كانت عليه لحظة حرب أكتوبر ولحظة ثورة يناير؛ فقبل بدء العبور يوم 6 أكتوبر جرى ترجمة المطالب الشعبية في الأهداف الاستراتيجية للمعركة: عبور القناة وتكبيد العدو خسائر في أفراده ومعداته وهزيمة تجمعاته شرق القناة والثبات على الجبهة الشرقية بعمق يتراوح بين 10 إلى 15 كيلومتراً.

لم تكن المطالب ولا الأهداف الاستراتيجية محو العدو أو إجباره على الاستسلام ولا حتى تحرير مجمل سيناء في المرحلة الأولى، فالواقعية فرضت الإقرار بتفوق الخصم في طيرانه وعدم قدرة دفاعاتنا على حماية قواتنا في مساحات مفتوحة بعد الـ 15 كيلومتراً المحددة في أهداف المعركة.

لكن الواقعية لم تعنِ استسلاماً للتفوق العسكري للعدو، وإنما تعظيم عناصر القوة لدينا والاستفادة من عناصر الضعف لديه، وتقسيم المعركة إلى مراحل تبدأ بنقل قواتنا للضفة الشرقية وكسر الروح المعنوية للخصم وتكبيده أشد الخسائر ورفع الروح المعنوية لقواتنا التي لم يسبق لها أن هزمت العدو في معركة مفتوحة.

الواقع العربي لا يختلف كثيراً عما كان عليه فترة الاحتلال الصليبي لفلسطين والشام أو أثناء الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي، كنا نحتاج إلى نصر وإلى تحقيق أهداف استراتيجية على الأرض بإنهاء الميزة النسبية للعدو بتخندقه خلف حاجز مائي مهم؛ وقد حقق الجيش المصري هدفه بوضوح في الأيام الأولى للمعركة، قبل أن تتدخل القيادة السياسية بعجرفتها لإفساد جزء من هذا النصر والقيام بدور المخطط العسكري الذي لا يدخل في وظائفها.

وكما هو الشأن دائماً، فإن خلط الوظائف وتجاوز المهام يؤدي لكوارث، فقد أدى قيام القيادة السياسية بدور التخطيط العسكري ودفعها الجيش جبراً عن قادته لتطوير الهجوم قبل بناء منصات صواريخ في الجبهة الشرقية لتؤمن تقدمه كما أمنت عبوره، أدى للثغرة وتبعاتها التي نعاني منها حتى اليوم، والتي انعكست في اتفاقات فض الاشتباك وكامب ديفيد وملاحقها الأمنية وما زالت تتابع حتى اليوم في صورة ذلك الانبطاح الذي تمثله سلطة الانقلاب في عملية تعاون خفية علنية مع أصحاب الثغرة لفرض ما يدّعون أنه الأمن والاستقرار في أرض سيناء، بينما يدفع شعبنا في هذه البقعة المباركة ثمناً فادحة لتلك الثغرة ولتلك الاتفاقات ولذلك التعاون الزنيم.

لم يكن خطأ شعبنا أن وضعت القيادة السياسية نفسها محل القائد الميداني؛ ولم يكن خطؤه أن ربط على بطنه وتقبل كل الآلام بما فيها النقص في الأموال والقوت والأنفس لدعم المجهود الحربي، ثم تأتي قيادة سياسية غير رشيدة لا يُمكنها أن تترجم نتائج التضحيات والإبداع في الهجوم والعبور والثبات إلى انتصارات سياسية وانجازات اقتصادية واستعادة للريادة وروح النهوض والسبق.

ولمدة 39 كاملة كنا ننتقل من خطأ إلى خطأ أفدح، ففي مقابل النتائج غير العادلة التي تمخضت عنها العملية السياسية بعد نصر أكتوبر، جرى تبديد مقومات الصموت والثبات التي اعتمد عليها شعبنا للتجهيز لمعركة أكتوبر؛ ففي عشرين سنة جرى بيع ما يجاوز 70% من الأصول الصناعية والتجارية التي بناها المصريون بدمائهم في القطاع الخاص ثم قامت الدولة بتأميمها لتصبح قطاعاً عاماً، ثم جاء مبارك ليخصخصها من جديد مهدراً كل قيمة اقتصادية أو استراتيجية لها، فبيعت بتراب الفلوس دون اكتراث بالعناصر الاقتصادية الأعلى قيمة كالخبرة والسوق الشاسعة والقدرة على فتح أسواق في الخارج خصوصاً العربية أو الإفريقية. وكأننا أمام مخطط لتفريغ نصر أكتوبر من نتائجه ثم تدمير الأبنية الاقتصادية والخدمية التي ساهمت في صناعة النصر!

وعندما جاءت لحظة ثورة يناير، استعاد شعبنا من جديد دقة الرؤية وتحديد الأهداف فتمثلت في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، وكأنه توصل بعد تجربته في حرب أكتوبر أن الانتصارات العسكرية لا يُحافظ عليها إلا نظام مستند لقيم الحرية التي تقتضي أن تكون إرادة الشعب هي مصدر الشرعية وأن يستمر الشعب في القيام بعملية الرقابة وأن يمتلك القدرة على أن يحاسب ويُعاقب ويستبعد ويغير.

كما أن الشعب أدرك خلال أربعة عقود، أن السلطة وحاشيتها جنت كل ثمار ممكنة من مغامراتها الاقتصادية، وكأن الشعب صبر على نقص القوت وسوء الأحوال، لا ليصنع حرب أكتوبر، وإنما ليصنع فئة تتعالى عليه وتمتص خيراته وتستنزف قواه وتستعمله كسوق استهلاكي تبيعه لمن يدفع سمسرة أكبر. وبالتالي جاءت العدالة الاجتماعية على رأس مطالبه، مدركا أن شعبا تسوده العدالة في التوزيع يمكنه أن يصنع انتصاراته العسكرية ويحافظ عليها، وأن يبني مشروعاته الاقتصادية وأن يحميها من تغول الفساد.

وأخيراً الكرامة التي حارب من أجلها شعبنا في أكتوبر، بل وكل الحروب التي سبقتها، أمست مهدرة حتى النخاع، حتى أصبح المصري نموذجاً للتطاول على كرامته إن بقي في بلده وإن هاجر منها وإن عاد إليها وإن تبنى رأياً سياسياً وإن اعتزل السياسة.

كانت غايات حرب أكتوبر الكبرى هي نفسها غايات ثورة يناير، لكن الفارق أن الشعب لم يعد يأتمن عليها السلطة التي تتمسح في نصر أكتوبر وشرف المقاتل، بل لا نغالي أنه لم يعد يأتمنها على شيء بعد أن أثبتت في كل مناسبة أنها تحتفل بذكرى نصر أكتوبر فقط لتمجد نفسها ولتزدري شعبها ولتبرر استمرارها في التنكيل به وإهدار كرامته وسرقة قوته.

في ثمانية عشر يوماً حقق الشعب مطالبه التي رفعها دون نقصان، ووضع النصر بيد نخبته وسياسيه الذين كانوا في المعارضة وقدموا أنفسهم باعتبارهم بديلا لنظام التنكيل والفساد.

ولا يمكن أن نطالب الشعب بعد أن أسقط طاغية أن يجتمع هو ويرسم خارطة طريق، إنما تعرض عليه نخبته رؤيتها فيقبلها أو يرفضها وتُعرض عليه الأحزاب والجماعات فيختار منها ما يجرب برامجه ويرى فاعلية رؤاه، فإذا خاب غيره، وإذا استقام ثبته.

لا يُسأل الشعب عن أخطاء نخبته الذين أزاح لهم النظام القديم فأصروا على استعادته، بل تنافسوا على وده ونسوا التودد للشعب صاحب الفضل، الذي أخرجهم من السجون وجمعهم من المقاهي ومن أمام كيبوردات أجهزة الكمبيوتر ليجعلهم في المقدمة، فاختلفوا كما لم يختلفوا في أيام التيه والطغيان وفساد مبارك.

ولا يُمكن لأحد أن يلوم أيا من فئات الشعب التي استجابت للماكينة الإعلامية التي دعت لتظاهرات 30 يونيو ولا تلك التي احتفلت ببيان انقلاب 3 يوليو 2013، لأن هؤلاء لم يفعلوا سوى أن وثقوا في بعض من نخبتهم فساروا وراءهم وصدقوا وعودهم.

لم يأتِ الانقسام الشعبي فقط نتيجة التخطيط من الانقلابيين، فهؤلاء لو تعلمون أخيب من أن يُخططوا لعمل فيلم تسجيلي أو إدارة مؤتمر صحفي؛ بل أتى الانقسام الشعبي نتيجة انقسام نخبته التي جاءت على أكتاف ثورة يناير لتتصدر المشهد فشتت الجمهور وصدّرت اضطرابها واختلافها وتلعثم أدائها إليه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل