المحتوى الرئيسى

عن ماسبيرو... وجرح لا شفاء منه!!

10/07 01:44

عدتُ إلى القاهرة منذ أيام من ولاية كاليفورنيا، ومازلتُ مجهدة من أثر الرحلة الطويلة. داهمني الحنين لرؤية «ميدان التحرير»، فذهبت إليه مدفوعة باشتياقي له. لكن ما إن وقعت عيناي على ما جرى له حتى فزعت؛ فقد تحول إلى ما يشبه ثُكنة عسكرية. أحاطوه بحراسة مشددة واحتلوه بالكامل ولا مكان حتى للوقوف فيه. بالكاد تمرّ وأنت صامت بدون تعليق.

تندّرتُ في سرّي على نظام أرعن يعتقد أن باحتلاله ميدان التحرير يكون قد أمَّنَ نفسه من اشتعال فتيل الثورة مرة أخرى؟ لماذا لم يدرك أنه، برغم رمزية الميدان لأغلب الشباب، فإن هناك مداً ثورياً مازال موجوداً بقوة، وقد يطيح بكل شيء في أي لحظة بدون سابق إنذار، وأن ميادين مصر كلها يمكن أن تتحوّل في لمحة بصر إلى ميادين غضب وثورة؟!

تمرّ الأيام وتبدو بوادر أزمة للأقباط المسيحيين، حيث تمّ هدم كنيسة في أسوان. قيل في بعض وسائل الإعلام إن بعض الأهالي المسلمين في القرية هم من قاموا بهدمها على أثر نشوب خلاف بينهم وبين المسيحيين الذين أثار احتقانهم أكثر وقتها، تجاهل محافظ أسوان لهذا الحدث الكبير مع غيره من المسؤولين بالسلطة آنذاك. بعدها بدأت دعوات لمسيرات غاضبة في كل أنحاء مصر اعتراضاً على أحداث «الماريناب» وللاعتصام أمام مبنى «ماسبيرو» (4 أكتوبر- 2011)، وكان على رأس الداعين لها القس فلوباتير جميل عزيز والقس متياس نصر، وقد تضامن مع هذه الدعوة عدد من الشباب المسلمين للمطالبة بمحاسبة الجناة المتسببين بهذه الأحداث.

ليلة أحداث ماسبيرو أو «الأحد الدامي»، تابعت دعوات بعض الأصدقاء والصديقات للمسيرة التي تذهب من شبرا «مسقط رأسي» الذي ولدتُ فيه. فقلت لا بدّ من أن أكون أول الذاهبين إلى هذه المسيرة، خصوصاً أنه تربطني علاقات إنسانية كبيرة بعدد من الأصدقاء المسيحيين وتضررت نفسيًا لما حدث لهم.

للأسف لم أستطع الخروج من العمل مبكراً وخمنت أن المسيرة لا بدّ أنها قد انطلقت؛ لذا كان لا بدّ لي من الاتصال بأحد المشاركين لأعرف إلى أين وصلت.

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء بدقائق حين خرجت من عملي، وقابلت بالمصادفة في طريقي للخروج من الأوبرا أحد أصدقائي الكتَّاب، كان ذاهباً إلى اجتماع للجنة بالمجلس الاعلى للثقافة تجهّز لاحتفالية بثورة 25 يناير ستقام في ذكراها الأولى.

تهكّمتُ في سري على حماسته للأمر. وقلت لنفسي: «الدولة تريد أن تحوّل الثورة المصرية إلى «حفلة» أو «مولد» لتنتهي منها سريعاً مستغلة حماسة بعض المثقفين للاحتفاء بهذا الحدث التاريخي. لهذا غادرت المكان سريعاً وتركت هذا الكاتب الشاب لفرحه البريء بمشاركته في تنظيم كرنفال للثورة. وبمشقة منعتُ سؤالاً وقف على حافة لساني: «هل نجحت الثورة وحققت أهدافها حتى نقيم لها الاحتفالات، أم أنها باتت مجرد ذكرى عند أهل السلطة»؟

فشلتُ في الاتصال هاتفيًا بإحدى الصديقات المشاركات في مسيرة شبرا، فقررت بعدها الذهاب مباشرة إلى مبنى ماسبيرو وانتظار المسيرة هناك عند أول الشارع المؤدي إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون. لكن حين اقتربت من الباب عند محطة النزول، فوجئت بالباص ينحرف فجأة باتجاه ميدان باب اللوق مبتعداً عن ميدان عبد المنعم رياض (طريقه المعتاد)، فتوقفت أمام أحد المطاعم لأشتري سندويشاً لأتمكن من إكمال السير، لأني لم أتناول طعاماً منذ الصباح.

حين أعطيتُ «الكاشير» نقوداً لأطلب سندويشاً وجدته مبحلقا في التلفزيون هو وكل العاملين بالمطعم، لا يكاد يلتفت إلى أي أحد يكلمه من الزبائن، فرفعتُ رأسي باتجاه التلفزيون الذي بدا صوته عالياً بشكل لافت.

كانت مذيعة الأخبار «رشا مجدي» في (التلفزيون المصري) تحرّض على المسيحيين الواقفين عند ماسبيرو قائلة للمشاهدين إنهم اعتدوا على ضباط الجيش عند مبنى ماسبيرو، وتطالب الناس بالنزول - بنبرة طائفية بغيضة - لمعاونة الجيش للتصدّي للمسيحيين المتظاهرين.

لم أستوعب في البداية ما قالته هذه المذيعة الحمقاء، لكن التلفزيون بثّ بعض مشاهد هذه الاشتباكات عند ماسبيرو: «ضابط جيش يتم سحله من قبل أحد الأشخاص»، و «الدبابات وهي تدهس بعض المتظاهرين أمام مبنى ماسبيرو».

أصابتني هذه المشاهد القاسية بصدمة، فخرجت من المحل مسرعة ودون شراء شيء، متجاهلة جملة قالها عامل سلفي لزملائه في المحل: «طبعاً هما ميقدروش غير علينا احنا (قاصداً أصحاب اللحى الطويلة من الجماعات الإسلامية) «إنما المسيحيين ميقدرشي حد يجي جنبهم... أمريكا بتحميهم».

عند ميدان عبد المنعم رياض، في طريقي إلى ماسبيرو، فوجئت بالضرب من كل ناحية. طلقات لرصاص حي من أعلى كوبري 6 أكتوبر على كلّ المارين بشكل عشوائي، وبالقرب من تمثال الشهيد عبد المنعم كانت هناك مجموعة من البلطجية ومعهم صبية صغار يلقون بالطوب الكثيف على عربات الأمن المركزي وعلى الجنود الموجودين بها وعلى المارة أيضاً. كانت من نصيبي طوبة أصابتني في قدمي اليمنى. ولم أجد أنا ومجموعة من المارة خياراً سوى الفرار بعيداً عن البلطجية والصبية الصغار، محاولين اللوذ بشيء نحتمي به حتى يهدأ ضرب الرصاص فأستطيع الذهاب إلى ماسبيرو والاطمئنان إلى زملائي هناك.

حين وصلت إلى بداية شارع مبنى الإذاعة والتلفزيون، ظهر لي فجأة أحد الناجين من جحيم ماسبيرو. كانت تبدو عليه ملامح الارتباك والذعر الشديدين. اقترب مني وخمنت من كلامه معي أنه يعرفني، وأننا التقينا من قبل في إحدى المظاهرات. طالبني بمحاولة العودة سريعاً إلى بيتي لأن الدنيا مشتعلة، وقال إن الموت والدم في كل مكان محيط بنا، وإنه لا أحد بإمكانه أن يعثر مع مثل هذه الفوضى على أحد الآن. وأن في وجودى هنا خطراً كبيراً على حياتي.

مشيتُ معه مستسلمة باتجاه شارع طلعت حرب وأخذت المترو من محطة محمد نجيب. وعدت إلى البيت خائفة ومصابة باكتئاب لا مثيل له.

فتحت في الصباح الباكر - كعادتي كل يوم - الإنترنت وصفحتي على الفيس وتويتر لأعرف الأخبار، فرأيت صوراً مثيرة للرهبة على صفحات الأصدقاء لبعض جثث الضحايا المسيحيين من أحداث ماسبيرو بالأمس، منها من كانوا ملطخين بالدماء وبجوارهم ذويهم يصرخون، مروّعين من هول المنظر. يا لها من بشاعة تدمي القلب الضعيف!!

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل