المحتوى الرئيسى

من داخل قريته.. مصراوي يستعيد فرحة الشعب بأول شهداء أكتوبر

10/06 23:54

على مدخل القرية الصغيرة، هالت الأسرة من المشهد؛ الأهالي خرجت عن بكرة أبيها، زحام كيوم الحشر، النفوس متحفزة لحقيقة وصول جثمان الشهيد. ظنوه ترابا فيما عاد جسدا كاملا، البعض يهرول تجاه العربة يحيطها، القلوب بلغت الحناجر، فطالبت الأسرة من السواق الذهاب إلى المنزل. بصعوبة دلف جسد محمد حسين مسعد إلى الفراش، أرادت والدته أن يهنأ بسريره، يستمع للقرآن حتى اليوم التالي، غير أن الحشود بالخارج حالت دون هذا، ليحمل "محمود" جثمان شقيقه ويطل من الشرفة قائلا "أدي الشهيد يا بلد".

كأنما زفاف، شيع أهالي "سنديون" بالقليوبية الرقيب محمد، ما أن بدت ملامح النعش الخشبي حتى ذُبح أسفله عجلان، وُزع لحمهم على الفقراء، فيما انطلقت النساء تزغرد، والرجال تصيح "لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله"، ولم تكف الأيدي عن "هبش" الشيالة الموضوع بها الجثمان، لربما تكتمل حالة التصديق أن مرور عام وثلاثة أشهر لم ينقص من الجسد شيئا، كذلك الأطفال خرجت مهللة بصحبة ذويها، ولأول مرة تُرى السعادة في مأتم.

قبل نحو ساعتين من دقات الثانية من ظهر اليوم العاشر لشهر رمضان، كان رفاق الرقيب محمد حسين يخبرونه بأنهم ينوون الإفطار استعدادا لمشقة المعركة المنتظرة، بينما أعترضهم بوجه بشوش معلنا خوضه غمار الحرب صائما، وأعقب رده بجملة وحيدة "أنا عارف إني هقابل ربنا النهاردة" حسب رواية زميل الخندق. كفرد استطلاع كان الرقيب محمد ضمن أوائل العابرين نحو الضفة الأخرى للنصر، داخل مدرعة تشق مياه القنال كان "حسين" متأهبا لظفر مبين، قبل أن ترتطم المدرعة بلغم أفقدها التوازن، فغرقت بمن فيها إلا السائق الذي صعد من فوهة المركبة، وفي معترك العبور لم يلتفت أحد للغارقين إلا بعد ساعات، فأخرجوا جثمانه وتم تسجيله كأول شهيد لحرب أكتوبر المجيدة وفقًا لإشارات التبليغ من الوحدات الفرعية التابعة للجيش، وقد نشرت دار الهلال كتيب عام 1976 يحمل السيرة الذاتية للشهيد تتقدم غيره من شهداء أكتوبر.

عقب 15 شهر من استشهاد جندي مجند محمد حسين، الذي استقبل استدعاؤه في أول أيام رمضان بالبهجة بعد نحو 20 يوم فقط من زواجه، جمع كبير التف حول العائلة في طريقها من طوخ بالقليوبية إلى الإسماعيلية لنقل جثمان الشهيد، توجهت سيارة الإسعاف قِبل المدفن، 21 طلقة صدحت في السماء، الأم تتبتل بالدعاء، و"عبد الحميد" في انتظار عظام شقيقه البالية أو ما تبقى منه، غير أن المفاجأة ألجمت الكل.

الجثمان كما هو، لم تتبدل من هيئته سوى صلابة الجلد، فيما لا يزال اللاسلكي متشبث برأس الشهيد، "السونكي والزمزامية" معلقان بخصره، والبوصلة عن يمينه والسلسلة تتدلى من رقبته باسمه ورقمه العسكري وفصيلة دمه. اقتربت الأم من وليدها، على موضع قلبه ارتمت ليتلامس مع قلبها ثم صاحت "ده محمد ابني.. ده اللي شالته بطني" مطالبة "حبيبة" أن تُملي نظرها من أخيها فألحمت ملامحها بوجهه جاهشة بالبكاء، قبل أن يحيدهم المحيطون، داعين إياهم لطريق العودة إلى سنديون.

"كان فكري عن الميت أنه رجل كبير أو مريض يروح المستشفى.. لأول مرة أعرف يعني إيه حد يموت في حرب" بلسان رجل خمسيني يعبر إبراهيم سيد عن حالته كطفل في الحادية عشر من عمره يحضر للمرة الأولى تشييع شهيد. لم يغادر مشهد فرحة "سنديون" خلده، مسجلا أولى معلوماته عن الرقيب محمد، قبل أن يصبح أحد المسؤولين عن تعريف التلاميذ به، باعتباره مدير مدرسة حملت اسم الِشهيد محمد حسين مسعد.

التحاق المهندس الزراعي بالجيش كان أمنية؛ غيرة محمودة واحتفاء جم اعتراه تجاه أخيه "عبد الحميد" العائد لتوه في أعقاب النكسة، ففي الوقت الذي كانت كلمات "انسحب يا مصري" تدوي في أجهزة اللاسلكي من قبل اليهود المحتلين لمواقع القيادة في سيناء، رفض المجند عبد الحميد أن يترك المعركة هربا، فاتخذ سيارة كبيرة وراح يتفقد الطرق بحثا عن جنود اختبأوا في الصحاري ليقلهم إلى أقرب وحدة عسكرية، وكذلك نقله لصندوقين من الأسلحة والذخيرة والرشاشات نصف الألي بدلا من تركها نهبا للعدو "كان بيقولي اللي عملته ده بطولة.. والنصر هيجي قريب".

طيلة ثلاثة أعوام يؤدي الرقيب محمد خدمته بالجيش حتى أذان الحرب. الشوق يسري بروح الأم واللهفة تنبض بنفس الأخت الوحيدة بين أشقاء أربعة يغيب اثنين منهم بالجيش لأيام طوال. ما كان اعتياد غياب "محمد" سهل حال "عبد الحليم"، فمحبته رُزق بها القريب والغريب، حنيته تفيض على الجميع، وتحمله المسؤولية دون تململ يزيده بهاءً في نظر الجميع، لذا كانت عودته للقرية موضع ترحيب واهتمام "كان ميتكبرش علينا يجي يعمل أي حاجة يدخل الزريبة ويساعد في الغيط" كذلك تعلقت صورة الشهيد لدى زينب محي الدين –زوجة أخيه- بينما كانت طفلة في الصف الابتدائي، كلما أطلت من الشباك ورأته مرتديا بذلته العسكرية لوحت له بيدها محيّة قدومه. طلته المهيبة لم تكن فقط ما يبهرها بل خلقه الذي حفظته عنه "مش معنى أنه متعلم ومهندس يبقى يترفع".

ثلاثة أشهر بعد الحرب والعائلة لا تعرف عن وليدها شيئا، كحكايات الغريب تأتيهم الأخبار تارة بأنه أسير، ومرة مصاب في إحدى المستشفيات، وثالث يقسم بوجوده في كتيبته تأهبا لاستكمال الحرب، بينما كان يرقد في حفرة تسع من الشهداء المئات بصحراء الإسماعيلية، تتقدمه قطعة رخام وضعها رفاقه ممهورة باسمه كأول شهيد أسلم للوطن روحه.. بعد نحو 100 يوم جاء الخبر اليقين، خطاب من مجند مختلج بالدموع، سلمه للأهل ثم استدار بعد تأدية التحية العسكرية تكريما لسيرة الراحل.

ببداية معرفة خبر استشهاد "مسعد" غاص قلب الأم في الحزن لكن سرعان ما صارت كلمات العزة تُندي لسانها "كانت تقول أنا فرحانة أن ابني رفع راسنا وراس مصر". كانت الحاجة زينب محمد على فطرة أهل القرى، لكنها علمت من أبنائها معنى الاحتلال والحرب وذاقت باستشهاد أحد أبنائها وعودة الآخر معنى النصر، فلا تترك مناسبة يأتي بها ذكر "مسعد" على مدار سنوات حياتها بعده في وقت لم تعد به الحرب سوى ذكرى إلا ونادت أحفادها مهللة ومخبرة إياهم "يا ولاد عمكم شهيد.. واللي مات شهيد ده ميبقاش ميت ده عارف عنا كل حاجة وهو حاسس وفرحان بينا دلوقت".

في كل شهر منذ عُرف مكان الشهيد، تتأهب الأم الكفيفة لالتقاء فلذة كبدها بقلب يعتصره الحزن، تُقبل الثرى ويتبدل تعبير وجهها في اللحظة مئات المرات، تُحدث "محمد" كأنها تهدهده، تشكي له همها، تطمئنه على صحتها، تبكي، تتبسم ثم تضحك بصوت أعلى، كحوار خفي لا يسمعه إلاها، تأبى أن تغادره إلا مع غروب الشمس "حلفتنا بكل الأيمانات: لازم نجيب أخوكوا جنبي عشان استريح" يقولها شقيقه "عبد الحميد" متذكرا تلك الليلة التي أجلستهم فيها لتخبرهم بأن "محمد جالي في المنام وقاللي يا اما مسير الغريب يعود، والحبايب يتلاقوا"، كظم الأبناء قلة حيلتهم، فيما كانت الأيام تخبئ خبرا يؤكد أن قلب الأم لم يكن متوهما، وأن "الأحباء" على موعد كما فسرت الرؤية.

كون "عبد الحميد" مجندا فتح باب التيسير أمام رغبة الأم، سأل الشقيق الأصغر القائد المسئول عن المنطقة المدفون بها الشهداء "بس كنت متأكد إن مفيش رجا.. مش معقول الآلاف دول هيتنقلوا"، غير أنه بمجرد معرفة اسم القائد، تهللت أساريره وشعر أن رغبة والدته ربما تتحقق، اللواء فؤاد عزيز غالي -كان قائدا للفرقة 18 مشاة التي كلفت باقتحام قناة السويس في منطقة القنطرة وتدمير القوات الإسرائيلية وأسلحتها في النقاط الحصينة- وفي أول أيام تجنيده كان "عبد الحميد" السائق الخاص لغالي، أخذته الشجاعة وتقدم نحو مكتب القائد فإذا به يوافق على النقل بشرط أن توفر الأسرة مدفن خاص للشهيد لا يشاركه فيه أحد.

لم تكذب الأم خبرا، باعت فدان الأرض الذي تملكه الأسرة، وبأمواله بنت المدفن في مدخل القرية، حيث تقع مقابر أهالي "سنديون"، ونفذت الأسرة الشروط بحذافيرها، إلى أن استقر الشهيد بمثواه الأخير قرب والدته بعد أن تكفلت قوات الجيش المصاحبة بدفنه وإغلاق باب المدفن بالصبة الخرسانية حتى لا يعبث أحد بنقله "القائد اللي جه معانا قال لنا أحنا اللي ندفنه ده شهيدنا أحنا" كما تقول "حبيبة".

هدأت نفس الأسرة برؤية الفقيد، استودعته عند ربه شهيدا، غير أن وصول "مسعد" لبلدته لم يسلم من العِبرة وتوجيه الإشارات؛ عند جامعة الزقازيق توقفت السيارة الحاملة للجثمان، تأبى عن التحرك رغم محاولات إصلاحها، قبل أن يُوحى لـ"عبد الحميد" أنهم بمنطقة أقام بها الشهيد أربعة أعوام من عمره للدراسة بها، فضلا عن وجود أعز أصدقائه بها، "كأنه كان بيسلم على اللي بيحبهم" وصفت شقيقته، ففور الذهاب لكل نقطة خط بها قدم البشمهندس محمد من الجامعة للسكن ثم الصديق، سارت العربة كأنما لم تقف.

الشهيد ليس كمثله شيء، يُربى على عين خالقه، لذا علم الجميع بعد استشهاد "مسعد" لما كان قرة عين أسرته ووالدته "روحها فيه دون أخواته" كما تقول شقيقته. كان "مسعد" بمثابة الأخ الكبير لأخواته رغم أنه الابن الثاني، لكن سفر "محمود" الدائم –الأخ الأكبر- وضع الشهيد في محل الاعتماد دون سؤال منذ كان طالبا بكلية زراعة الزقازيق. حين يفد إلى القرية يخلع عنه ملابس الحضر، ولا يلبث أن تختلط يداه بالطين معاونةً لأبيه الفلاح البسيط، وتذكر شقيقته تلك المرة التي انُهك أبيهم عن مهام الأرض ليعود بعد ساعات ويجدها في حلتها بعدما تولاها "محمد" بغير طلب "أبويا بقى يبوس فيه ويحضنه" تقول "حبيبة" مستعيدة مآثر الشهيد التي لم تنته بوفاته.

"ساعة لما جبنا الشهيد لقينا ناس جاية من بلاد حوالينا تقول لنا ده كان بيساعدنا" تحكي شقيقة "مسعد" عن مشهد العزاء الحافل بالغرباء عن الأسرة، متذكرة تلك السيدة التي انهكها البكاء على الشهيد، فيما كانت تعمل عند أصدقاء للرقيب محمد الذي ظل يمد لها العون "قالت لي قطع فينا كلنا"، بالوقت الذي لم يطق والد زوجة الشهيد البقاء في القرية بعد رحيل نسيبه "ساب البلد من ساعتها من كتر حزنه عليه".

غادر "مسعد" الجميع بذكرى يبتسموا لها قبل أن تأسرهم دموع الفقد، فلازال المنزل الذي تربي فيه يحمل صوره، وهو وجهة السائلين عن أهل الشهيد رغم أنه لم يعد يسكنه سوى زوجة شقيقه الراحل قبل 8 اعوام. من طابق واحد إلى اثنين سعدت أسرة آل "مسعد" حين طور "محمد" منزل العائلة ظنا أن الابن المحبب سيتخذه سكنا لزواجه قبل أن يبهتهم بمبتغاه "فضل على قوله ده لكم" وكذلك "كان اللي في ايده مش له".

لم تنقطع سيرة الشهيد "محمد"، ظل حي يرزق عند أسرته؛ في السادس من أكتوبر منذ استشهاده ظلت الأم تحيي هذا اليوم، تأتي بالمقرئين لختم القرآن كأنما ليلة عرس، لا تخلو من نفحات تفيض على "الغلابة"، واستمر هذا التقليد بعد أن وارت الحاجة زينب التراب قبل 9 سنوات بمدفن مجاور لابنها، إذ تسلم الأخ الأصغر "أحمد" راية إحياء الذكرى، ثم عكفت زوجته ألا تقطع الوصال، فقط تغير ميعاد الليلة ليوم وفاة الشقيق "كل رمضان ليلة 27 بجمع المقرئين يختموا القرآن عشان عمي محمد وجوزي".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل