المحتوى الرئيسى

ما زلنا عند نقطة الصفر

10/06 21:16

فى الواقع وقبل أن أستهل حديثى عن المناظرة الأولى بين المرشحين الديمقراطى كلينتون والجمهورى ترامب، أود الإشارة إلى أنه لا يوجد نص دستورى يلزم المرشحين بإجراء أية مناظرات علنية، وإن كانت قد أصبحت فى الواقع جزءا من العملية الانتخابية. وإذا ما قرر ترامب الامتناع عن خوض أى من المناظرتين القادمتين، فإن أحدا لا يمكن أن يحاسبه على ذلك. وكانت المناظرة الأولى قد جرت بين كينيدى ونيكسون فى عام 1960. وعلينا أن نوضح هنا أن تلك المناظرات تستهدف الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد. وعليه، فإن قياس فوز مرشح على آخر فى هذه المناظرات يرجع إلى مدى نجاحه فى استقطاب ناخبين جدد بالإضافة إلى قاعدته الانتخابية.

يذهب الكثيرون إلى ترجيح كلينتون فى الجولة الأولى وفوزها على ترامب بجدارة وإن لم تسدد له الضربة القاضية، ونجح ترامب بين الحين والآخر فى أن يسجل بعض النقاط لصالحه، لا سيما بالنسبة لموقفه من حرية التجارة ورفضه اتفاقيات التجارة الحرة ــ كموقف ثابت وإن كان غير متسق مع سياسة حزبه ــ على أساس أن مثل هذه الاتفاقيات يعود بالضرر على الاقتصاد الأمريكى والعمالة الأمريكية. وعلى الرغم من أن الموضوعات التى تم تناولها عامة خلال هذه المناظرة كانت خليطا بين موضوعات دولية وأخرى مقصورة على الاهتمام الداخلى، فإن كلينتون أمسكت بزمام الأمور وعرفت كيف تدير المناظرة لصالحها وبدا ترامب فى غالب الوقت مدافعا عن نفسه. ومن هنا جاء التقييم المبدئى للمناظرة الأولى فى مجموعه لصالح كلينتون، غير أن ما خفى كان أعظم.

فإن هذه المناظرة لم تسهم فى تغيير استطلاعات الرأى ولم تقم بترجيح كفة مرشح على الآخر. ففى التحليل النهائى لم تغير هذه المناظرة الكثير، ولم تنجح المناظرة على نحو ما كان متوقعا فى إقناع المترددين فى التصويت بحسم موقفهم، حيث يبدو أن أيا من المرشحين لم ينجح فى تعبئة مجموعة المستقلين أو حشد أكثر من دائرته الانتخابية الضيقة الموالية له. فلم تنجح كلينتون قيد أنملة فى استقطاب أصوات جديدة على الرغم من الجهود التى تبذلها لجذب جيل الألفية الذى كان ملتفا بكل قوة حول منافسها السابق بيرنى ساندرز فى الانتخابات التمهيدية وكان وراء فوز الرئيس أوباما فى انتخابات 2008 و2012. أمّا بالنسبة لترامب، فإنه مازال يعتمد على الناخبين البيض الذين يكنون له الولاء منذ البداية، ولم يساعده تعامله بأدب جم تجاه كلينتون ومناداتها بلقب وزيرة الخارجية طوال المناظرة على جذب أصوات المرأة أو غير البيض من الأقليات، فى حين أن كلينتون استمرت فى محادثته باسمه الأول.

ومن الواضح أن المرشحين لم يتبادلا بعد الضربات القاضية فيما بينهما، وإن كانت هناك بعض اللكمات القوية التى جاءت من كلينتون، وبما أظهرتها ــ على الأقل ظاهريا ــ أنها تصلح لتصبح رئيسة للولايات المتحدة كما صرحت بنفسها أنها تعد العدة لذلك. وكان واضحا أن كلينتون جاءت مستعدة لهذه المناظرة وملمة بالموضوعات إلماما جيدا مما أدى إلى إحراجها لترامب فى أكثر من مناسبة، على حين أن ترامب ظهر فى شكل التلميذ البليد الذى تقاعس عن أداء واجبه.

وجاءت ضربات كلينتون قاسية فى وكر ترامب، حيث شككت فى حجم ثروته ومدى ما يشيعه عن تبرعاته الإنسانية، معللة ذلك بتقاعسه عن دفع الضرائب المستحقة عليه لعدم افتضاح أمره ومشيرة إلى المرات العديدة التى أشهر فيها إفلاسه، بما لا يدل على نجاحه كرجل أعمال على نحو ما يدّعى. كما انتقدت كلينتون ما يشيعه ترامب عن نفسه بأنه رجل النظام والقانون، وأن هذا الادعاء فارغ من أى محتوى أو خطة واضحة لكيفية تنفيذه، فى حين أنها قدمت من جانبها برنامجا متكاملا لكيفية إعادة تدريب وتأهيل الشرطة وإصلاح نظام العدالة الجنائى الأمريكى.

وكانت ردود ترامب ضعيفة وفى غير محلها، فبدلا من إعادة الصاع صاعين وتذكيرها بفضيحة البريد الإلكترونى وما رددته من أكاذيب لمكتب التحقيقات الفيدرالى أو العلاقة المريبة بينها وبين مؤسسة زوجها وابنتها أثناء توليها وزارة الخارجية، أشار ترامب إلى أنه يخضع حاليا إلى عملية تدقيق ومتابعة من جانب مصلحة الضرائب، فضلا عن أن عدم دفعه الضرائب يعتبر ذكاء منه. أما عن إشهار إفلاسه لعديد من المرات، فجاء رده مرة أخرى مخيبا على أنه قام باستغلال القوانين المتاحة وتطبيقها بحذافيرها، وأنه ربما يكون الأمر فى حاجة إلى تغيير هذه القوانين. وعلينا أن نتوقف قليلا عند هذا الرد، ما المقصود فعلا منه؟ فهل فعلا ترامب يسىء إلى نفسه؟ بالقطع لا، فإن هذه الإجابة لها مغزاها، فهى بمثابة استئناف لانتقادات ترامب الموجهة إلى فشل الإدارة الأمريكية، وأنه كرجل أعمال ناجح استطاع مواجهة الحكومة والتفوق عليها.

أما بالنسبة لقضايا العنف الداخلى، فقد ظهر تحيز ترامب إلى جانب رجال الشرطة ضد الأقليات من الأمريكيين الأفارقة واللاتين وداعما للوبى الأسلحة ضد حسم قضية انتشار الأسلحة داخل المجتمع الأمريكى، وهو طبيعى ما لم يعزز موقفه بين هذه المجموعات الذى يسعى إلى استقطاب البعض منها ــ ولو بنسبة ضئيلة ــ للتصويت لصالحه. بيد أن من أكثر المداخلات الناجحة لترامب هو الارتقاء بنفسه عن سياسات الحزبين وانتقاد كلينتون على أنها تمثل سياسات الماضى وإخفاقات السياسة الأمريكية السابقة، على حين أنه يمثل مرشح التغيير لصالح المواطن الذى كثيرا ما تناسى السياسيين فى واشنطن أمره ومطالبه.

ويبدو أن ترامب نجح أيضا ــ على الأقل من وجهة نظر مصر والمنطقة ــ فى فضح الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته كلينتون خلال الفترة الأولى من رئاسته وإلصاق تهمة الانسحاب المتعجل من العراق بهما وتغوّل داعش نتيجة لسياساتهما الفاشلة وسيطرتها على المنطقة. وعلى نحو ما هو مألوف بالنسبة لترامب لم يأت بخطة بديلة لكيفية القضاء على داعش وإعادة الاستقرار إلى المنطقة. أما كلينتون فهى الأخرى لم تفلح إلا فى تقديم أنصاف الحلول موضحة بكل جرأة أن خطتها المتكاملة سوف تؤدى إلى القضاء على داعش. فإن خطة كلينتون لا تخرج عن التعاون مع الجيش العراقى، والتعاون مع الأكراد، وتجفيف منابع التمويل، دون تفاصيل كيفية تحقيق أى من ذلك، واستهداف قيادات التنظيم على نحو ما ساهمت فيه مع الرئيس أوباما أثناء تواجدها بالإدارة الأمريكية والقضاء على بن لادن. وطبيعى يخفى عن كل من ترامب وكلينتون أن المجموعات الإسلامية المتطرفة مجموعات ولَّادة وسرطانية تتشعب فى جميع الأنحاء ولن يفيد هنا أنصاف الحلول أو البلاغة فى الخطابة.

ويمكننا القول إن الشأن الوحيد الذى تم تناوله بقدر من الموضوعية هو دعم النمو الاقتصادى فى الولايات المتحدة فى النصف الأول من المناظرة، مما أبرز أوجه الخلاف بين كل من المرشحين. فبينما أعادت كلينتون تأكيد سياسات الحزب الديمقراطى بل ومؤيدة بشكل أقوى توجهات الاشتراكى بيرنى ساندرز فى زيادة الضرائب على الشركات الكبرى والأغنياء والاهتمام بالمشروعات صغيرة الحجم وتخفيف أعباء التعليم الجامعى على الطلبة أملا فى الحصول على بعض أصوات مؤيدى ساندرز، ذهب ترامب إلى سرد منظوره للسياسة الاقتصادية، منتقدا تحميل كبريات الشركات أعباء إضافية لأنها هى التى تعمل على خلق فرص العمل على الصعيد الداخلى والتى لا تقوى الشركات الصغيرة على القيام به. وفى هذا السياق انتقد ترامب بقوة اتفاقية المشاركة عبر المحيط الهادى وأشار إلى أن اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك (النافتا)، التى تمت فى ظل إدارة بيل كلينتون، هى أسوأ الاتفاقيات، على الإطلاق، التى تم التفاوض عليها بالنسبة لبلاده.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل