المحتوى الرئيسى

"حسنة وأبوها".. دماء سطرت مفتتح بطولات الاستنزاف بالإسماعيلية

10/05 22:09

غارات الأباتشي صوتها يدوي على مقربة من الأرض، والمدافع تدك البيوت والأسواق.. رائحة الدماء تزكم الأنوف.. أشلاء تتناثر في كل مكان.. وامتلئت مشرحة "المقابر" بكم هائل من الجثث.

ذلك توصيف سريع لمشهد شارع "سعد زغلول" وقت أول قصف للطيران الصهيوني على مدينة الإسماعيلية، لكن في التفاصيل تكمن بطولة "آل سمرة".

قاربت الشمس على الغروب في يوم 15 يوليو 1967 عندما شن الطيران الصهيوني أول غاراته على مدينة الإسماعيلية.. سقطت أولى قذائف الهاون بشارع سعد زغلول أمام مقهى "نعناعة" حاليًا وأودت بحياة حسنة ووالدها.

49 عامًا مرت على الأسرة لم تمح معها تفاصيل اللحظات الدموية، تقول "فوزية سمرة" 70 سنة، ابنة الفقيد: " كانت الحياة هادئة بالمدينة ـ قبل الغارة ـ رغم أجواء الهزيمة على الضفة الشرقية. كنت وقتها أعمل ممرضة متطوعة بمستشفى هيئة قناة السويس لمداواة الجرحى و"حسنة" شقيقتي تعمل ممرضة متطوعة بمركز السبع بنات- مركز طبي حكومي بالإسماعيلية.

تضيف: في هذا اليوم وقبيل المغرب بنحو ساعة تقريبًا فوجئنا بالقصف المكثف على المدينة. حلق الطيران عن قرب وأصوات المدافع كانت مرعبة. وقتها استشعر والدي وكان يعمل موظفًا بهيئة قناة السويس الخطر على "حسنة" لتأخرها في الوصول فقرر الذهاب إليها بالمركز وبعد دقائق وصلت "حسنة"، لكنها خرجت مرة أخرى بحثا عن والدها. ولم يعد الاثنين حتى اليوم الثاني واستمر القصف في هذا اليوم حتى الفجر وهو ما منعنا للنزول للبحث عنهما.

"في الصباح وعقب انتهاء الغارة خرجت أدور عليهم في المستشفيات كان عندي أمل إني ألاقيهم بين المصابين. ثم اتجهنا لمشرحة "المقابر" وكانت الجثث كتيره حوالي 100 قتيل، منهم اطفال وستات وشباب وفي وسط الجثث لقيت جثة حسنة وجمبها جثة بابا.. كان فيه جثة جارنا الحاج محمد شلة".

تستطرد: "محستيش بنفسي ورجعت البيت وأنا بصرخ وبعيط ودخلت على ماما وانا بقولها يا خبيتك يا ماما يا خيبتك.. الاتنين ماتو.. الاتنين يا ماما".

وأضافت: "شهود عيان على الواقعة أكدوا استشهاد الأب في الحال بعدما أصيب بشظية في بطنه وبعد دقائق معدودة خرجت حسنه لتبحث عنه وكان القصف مستمر وفي نفس اللحظة التي عثرت فيها على جثة أبيها. أصابتها هي الأخرى شظية في كتفها الأيمن لتسقط بجوار والدها وتختلط على الأرض دماءهما معا ليسجلا بذلك أول شهيدين مدنيين في الإسماعيلية بعد هزيمة 67".

 "خرجت أمي معنا للمشرحة وهناك أصرت على أن تكفنهم بنفسها وتدفنهم في مقابر أحد المعارف ورفضت أن يتم دفنهما في المقبرة الجماعية التي أعدت خصيصا للضحايا".

تقول: "كانت أمي صابرة وثابته ومحتسبة وفوضت أمرها لله وبعد 40 يوم من الأحداث اضطررنا للهجرة من الإسماعيلية إلى مركز ههيا بمحافظة الشرقية في ظروف قاسية ومأساة بما تحمله الكلمة من معاني خاصة مع تجدد الغارات والقصف على الإسماعيلية وسقوط ضحايا جدد".

"تفيدة سمرة" الشقيقة الصغرى، تعمل مدير حسابات بمديرية الزراعة بالإسماعيلية"، تقول: "كنت وقتها في الصف الثاني الابتدائي ولكنني أتذكر تفاصيل ذلك اليوم.. صوت الغارة والرعب الذي تملكني وقتها على "حسنة" وعلى والدي".

"أتذكر هلع أمي وشقيقاتي الأخريات عليهما ورحلة البحث التي قطعوها بين المستشفيات.. وفور التأكد من خبر استشهاد أبي وأختي أخذني أحد الجيران للمكوث عندهم وأخفوا عني الخبر ووقتها صدرت الأوامر بالتهجير وهاجرت مع الجيران وبعد شهرين من الواقعة التقيت مع أسرتي ووقتها علمت بالخبر وكانت فاجعة لي لم أتحملها لصغر سني وكان صبر أمي وثباتها هو المعين الأول لنا على تجاوز الفاجعة".

تضيف: "عانت أمي كثيرًا معنا طوال فترة التهجير في مكان لا نعرف فيه أحد ولا نملك إلا معاش والدنا وكان مبلغًا صغيرًا لا يكفي لمتطلبات أربعة فتيات وأمهم وهو ما دفع شقيقاتي "فوزية" و"رضا" و"أسرار" للعمل في التمريض.

"كنا طوال سنوات التهجير ننتظر بين الحين والآخر قرار الحرب والأخذ بثأر الشهداء حتى جاء انتصار أكتوبر وصدر قرار العودة للإسماعيلية.. وقتها كنا من أوائل الدفعات التي عادت للمدينة".

تكمل حديثها: "كانت آثار الحرب واضحة في كل مكان. ثم حدث ما لم نتوقعه أبدًا فقد عثرنا على حذاء "حسنة" الذي كانت ترتديه يوم استشهادها، ملقى في الشارع على بعد أمتار قليلة من مكان ارتقاء روحها.. وكأن الزمن توقف بالمدينة مع لحظات استشهادها. وكان هذا الحدث كفيل بأن يجدد مشاعر الحزن والألم مرة أخرى داخلنا".

وتابعت: "مرت سنوات طويلة وعصيبة.. جدران المنزل تذكرنا بكل التفاصيل.. الشارع والميدان.. كل مكان كان جزءً من الذكريات.. لكن مع هذا لم نلق أي تكريم رسمي من الدولة على ما تعرضنا له سوى بعض شهادات التقدير التي منحتها هيئة قناة السويس لأمي التي توفت منذ عدة سنوات.. وبصوت يصارع الدموع، قالت: "نحن ننتظر تكريم السماء لنا يوم القيامة وقتها سيعود الحق لأصحابه".

"جلال هاشم" أحد مؤرخي الإسماعيلية، يقول: "استشهدت حسنة وهي عائدة من عملها بمستشفى السبع بنات حيث كانت متطوعة بالمستشفى وفي صباح هذا اليوم ذهبت للمستشفى مع زملاءها لتكون مستعدة لأي طارئ متوقع من العدو الإسرائيلي لكن في طريق عودتها بدأت الغارة الغاشمة".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل