المحتوى الرئيسى

غماري طيبي يكتب: بين العلمانية الغربية والعلمانية العربية (الحلقة الأولى) | ساسة بوست

10/05 21:49

منذ 1 دقيقة، 5 أكتوبر,2016

يكثر الحديث حول العلمانية العربية، «المقصود بالعلمانيين العرب كل العلمانيين المنتمين للدول العربية، حتى وإن كانوا إثنيًا ليسو بعرب»، خاصة عندما تحاصر الأزمات المجتمعات العربية، ولأن العلمانية في الأصل مفهوم غربي، عادة ما يتساءل النقاد والمفكرون عن أسباب نجاح العلمانيين الغربيين في صناعة الحداثة، في حين فشل العلمانيون العرب في انتشال مجتمعاتهم من التخلف والجهل، بل إنهم دخلوا في مواجهة مباشرة مع مجتمعاتهم، وأصبح الكثير منهم ينظر إليهم كملحدين وكفار.

يقف خلف هذا الوضع مجموعة من الأسباب الموضوعية، التي ستظل تضغط على العلمانية العربية محاصرة إياها في زاوية الكفر والإلحاد؛ مما سيجعل العلمانيين العرب في حالة دفاعية مستديمة يحاولن من خلالها إقناع الآخر بأنهم ليسو كفارًا ولا ملحدين.

مرور اضطراري على مفهوم العلمنة

تؤخذ العلمنة كترجمة للكلمة الفرنسية (Sécularisation) والتي تتشابه في الرسم والنطق مع مثيلتها في معظم اللغات ذات الأصل اللاتيني، «فكلمة (علماني) (Séculaire) و(علمانية) (Sécularisme) و(علمنة) (Sécularisation) تحمل العديد من المعاني، تنحدر الكلمة من أصل لاتيني، في اللغة اللاتينية (saeculum) التي تعني في نفس الوقت (هذا العصر) و(هذا العالم)، وهي بذلك تركب بين المعنى المكاني والمعنى الزماني». (Barry A. Kosmin.  2007: 2)

المهم في هذا المستوى أن ننبه إلى أن المفهوم الغربي، ومنذ بداياته الأولى كان دائمًا يؤكد على العلمنة، وليس على العلمانية، فالعلمنة سيرورة وليست حالة، تعبر عن عملية تحول تمس الزمان والمكان، استعملت كلمة العلمنة «في العصور الوسطى لتشير إلى الرهبان الذين كانوا يعملون في خارج محيط المؤسسات الدينية. وكانوا بمثابة النقيض للرهبان الذين أخذوا عهدًا على أنفسهم بالعيش فقراء، والذين فرضوا على أنفسهم العيش في داخل الطوائف الدينية، سمي هؤلاء الرهبان فيما بعد بالـ«دينيين» (Barry A. Kosmin.  2007: 2)، بدأت سيرورة العلمنة من الكنيسة نفسها، للإشارة إلى التمييز بين الرهبان الدينين العاملين داخل الطوائف والمعابد، والرهبان المدنيين إن صح التعبير، وهم كل رجال الدين الذين فضلوا البقاء وسط المجتمع وخارج أسوار الطوائف والكنائس والمعابد، مفضلين حياة اجتماعية مدنية، بدلًا من حياة دينية تتسم بالفقر والترفع عن الدنيا وملذاتها، بعد احتدام الصراع بين الكنيسة والمؤسسات المدنية التي سعت إلى تحجيم دور الكنيسة في الحياة السياسية والاقتصادية، استعمل مصطلح العلمنة للدلالة على «مصادرة الدولة للممتلكات الكنسية الكاثوليكية وتحويلها للاستعمال غير الديني. في كل هذه المعاني كانت العلمنة تعني سيرورة التميز عن المقدس والأزلي والعقائدي» (Barry A. Kosmin.  2007: 2)، والتقرب أكثر من الدنيوي والوقتي والمدني.

يشير التطور التاريخي لكلمة العلمنة إلى ارتباطها الوثيق بالدين، ففي البداية كانت تستعمل للتمييز بين الرهبان الذين كانوا يجمعون بين ممارسة النشاط الديني داخل الكنيسة والنشاط الدنيوي خارجها، وبين الرهبان الدينيين، الذي اكتفوا بممارسة النشاط الديني القدسي ممتنعين عن ممارسة أي نشاط دنيوي، ثم استعملت للدلالة على فعل مصادرة الدولة لأراضي الكنيسة وتحويلها إلى النشاط اللاديني. عندما نمعن النظر في استعمالات كلمة العلمنة نجد أنها كانت دائما تعبر عن التمييز بين المقدس والدنيوي: بين الرهبان الدنيويين والرهبان الدينيين، ثم بين الحالة التي تكون فيها الأراضي الفلاحية وقفًا على الكنيسة تستعملها لتموين أنشطتها الدينية، وبين الحالة التي تصبح فيها نفس الأرض الفلاحية ملكًا لجميع المواطنين تستعمل فيما يخدم المصالح الدنيوية لهم. ثم استعملت «للتعبير عن تحرير الرهبان من عهودهم، ثم استعارتها السوسيولوجية ابتداء من القرن العشرين لتوصيف عدد من السيرورات التي فقدت فيها سلطة الدين سيطرتها على الفضاءات الاجتماعية والزمنية، لتعوض بإجراءات أمبريقية ودنيوية». (Bryan R. Wilson. 2005 : 8214)، وفي كل هذه الحالات تتزامن العلمنة مع الحداثة الذي تتبنى مبدأ تحرير الشؤون الدنيوية من قبضة الكنيسة «فالعلمنة كما يرى (Weber) هي السيرورة الشاملة للتحديث التي عمت كل من الدولة والمجتمع» (Cemal Karakas. 2007: 6)

تبين لنا ملاحظة واقع العلاقة بين السياسي والديني في العالم اليوم، تنوعًا في المظاهر التي تظهر عليها سيرورات العلمنة، فنجد أن الاتصال بين الديني والسياسي يكون وثيقًا لدرجة الالتصاق التام كما هو الشأن بالنسبة للنظم الثيوقراطية، أما في أدنى مستويات العلمانية فنجد المتدينين اللبراليين، وهم في العادة مسيحيون ويهود يؤمنون بتعاليم دياناتهم، ولكنهم في الوقت نفسه يتبنون مبدأ إرسال الدين والمعتقدات إلى المستوى الشخصي والخاص، (Cemal Karakas. 2007: 7)

ففي ألمانيا نشعر ببعض التسامح مع مسألة التماس بين السياسي المدني والديني، فالدولة تشرع رسوما خاصة بالكنائس، وتعترف بالأعياد الدينية وتؤطر برامج التربية الدينية في المدارس الرسمية، كما يمكن إبراز الرموز الدينية، دون حرج في المراكز العمومية، بالإضافة إلى كل هذا يمكن للأحزاب السياسية أن تؤسس برامجها على أسس دينية، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب المسيحية الديمقراطية (Cemal Karakas. 2007: 7). أما في هولندا فنجد مقاربة أخرى للعلمنة، تتيح للمجموعات الدينية الأساسية إمكانية تأسيس أحزاب سياسية بمرجعية دينية، كما يمكنها تأسيس نوادي ومصحات ومدارس ومؤسسات إعلامية خاصة، فالدولة لا تتدخل في نشاط هذه الجماعات الدينية، لكنها لا تساهم في تمويلها (Cemal Karakas. 2007: 7).

دائما في هذا المستوى من العلمنة اللينة، نجد بريطانيا العظمى، أين تعترف تشريعات البلاد بالكنيسة الأنجليكانية ككنيسة رسمية للملكة، وتعتبر الملكة دستوريا رئيسة لها، كما يسمح لأساقفة الكنيسة بتعيين أعضاء الغرفة البرلمانية العليا، وتعتمد الدولة على الشرائع الكنسية كجزء من القانون المدني، من جهتهم يعين الأساقفة مناصفة من قبل الملكة والوزير الأول». (Cemal Karakas. 2007: 7)، تبين لنا حالة العلمانية اللينة، التي تمثلها ألمانيا وهولندا وبريطانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، أن مسار العلمنة كسيرورة تمييز وظيفي بين الدولة والمؤسسات الدينية، يمكن أن يتم في تعايش تام مع الدين، وبدون الحاجة إلى معاداته، وسنلاحظ من خلال متابعة ما تبقى من أشكال العلمنة، أن هناك علاقة ارتباطية قوية بين مستويات الحداثة والتطور الاقتصادي، فالدول الثلاثة التي تتبنى العلمنة اللينة ترتب ضمن أحسن الاقتصاديات العالمية، وضمن أحسن الدول من حيث الشفافية والديمقراطية والأمن والاستقرار.

يمثل المستوى الأعلى ما يمكن تسميته بالعلمنة الصلبة، وهي تشير إلى تمييز صارم بين الديني والدنيوي، وتمنع الدولة من الإشراف على أية فعالية دينية، كما تمنع إبراز الرموز الدينية في الفضاءات العمومية، وتعتبر فرنسا والبرتغال، تقريبًا الدولتين الوحيدتين اللتين تتبنيان هذا النوع من العلمنة، والذي يسمى أيضا باللائكية.

مهم هنا توضيح الفرق بين العلمنة واللائكية، فالأولى تشير إلى سيرورة تحول ثقافي مس عددًا من الدول الغربية، كانت في غالبيتها بروتستنتية، أي لم تكن هناك صراعات ذات رهانات سلطوية بين الدولة والمؤسسة الدينية، ومن ثمة أصبحت العلمنة سيرورة ضرورية للتمييز الوظيفي بين المؤسسات الدينية والمؤسسات المدنية، تمييز من حيث النشاط، حيث يمكن للحاكم أو لرجل السياسة أن يكون متدينًا وأن يبرز تدينه، ولكن دون أن يكون لهذا التدين أي أثر على ممارسة وظائفه السياسية، فعندما يتعلق الأمر بخدمة المواطن لا يراعى إلا الحقوق المدنية، بدون إعطاء أية أهمية لأصوله الدينية، سواء توافقت أو تعارضت مع أصول الحاكم؛ أما بالنسبة للائكية فهي سيرورة ناتجة عن صراعات مريرة و«تراجيدية» بين المؤسسة الدينية الكاثوليكية على وجه الخصوص، والدولة ومؤسساتها المدنية، الأمر الذي أدى إلى حالة عداء شبه دائم بينهما وبين عناصرهما.

فاللائكية مصطلح صقل في رحم الثورة الفرنسية، وهو من أصل يوناني laos والتي تشير إلى وحدة الشعب (Nathalie Caron. 2007: 114)، وحدة تصبح إشكالية عندما نكون في مجتمع يتميز بتعدد الديانات، وبحرية التدين أو اللاتدين، في هذه الحالة لا يمكن أن تتحقق وحدة الشعب، إلا بتبني نظام مدني يتجاهل كلية المؤسسة الدينية، ومن هنا كان معنى آخر للائكية، وهو حياد الدولة تجاه كل الديانات؛ من أجل ضمان وحدة الشعب، فاللائكية كانت بالنسبة للثورة الفرنسية الحل الأمثل لمواجهة الاقتتال الطائفي الذي كان يهدد وجود فرنسا، ككل بداية من نهاية القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر. من هنا تمثل اللائكية المستوى الصلب من العلمانية، والذي يعبر عن موقف حازم ورافض للدين والتدين والرموز الدينية في كافة الفضاءات العمومية؛ مما يعني أن اللائكية تعبر عن «نظرة لا دينية للعالم وأيديولوجية مؤسسة على نسق علماني، إنها تعني الفصل المؤسساتي التام بين الدولة والدين، بين السياسة والسلطة الدينية، وعليه، تبقى الدولة خارج كل ما يتعلق بالمسائل الدينية». (Cemal Karakas. 2007: 7).

في مستوى أعلى للعلمانية وفي الجهة المقابلة للدولة الثيوقراطية، نجد الملحدين والذين لا يعترفون بالدين أصلًا، فإذا كانت اللائكية تقضي بإرسال الدين والتدين إلى المجالات الخاصة، ونفيه من المجالات العامة، فإن الإلحاد يقضي بإلغاء الدين كلية وإرساله إلى السرية، فالدولة هنا ليست محايدة اتجاه الممارسات الدينية، بل إنها معادية للدين ومحاربة له بشكل عنيف ودموي. كما أشرت سابقًا يبقى الارتباط قويا بين مستوى العلمانية مستوى الحداثة والنمو والتطور الاقتصادي، حيث يرتفع مع المستويات اللينة من العلمنة ويبدأ في الانخفاض كلما ازدادت العلمنة تصلبًا.

الجدير بالذكر في نهاية هذه المتابعة لمستويات العلمانية، أنه لا يوجد أي نظام صادق مائة بالمائة في تنفيذ المستوى الذي تبناه من العلمانية، فالاستثناءات موجودة دائمًا وبشكل فاضح، وهذا ما تثبته المتابعات الإحصائية لعدد من الدول، ففي الولايات المتحدة التي تصنف في مستوى وسط بين العلمانية الصلبة والعلمانية اللينة، وبالرغم من إصرار الدستور الأمريكي على أن الولايات المتحدة هي دولة علمانية، إلا أن جل الأمريكيين يتصرفون وكأن أمريكا دولة بروتستنتية، ونفس الشيء يمكن قوله على الكثير من الدول الأخرى.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل