المحتوى الرئيسى

عاشوراء بين "التّطبير" و"المشي على الجمر"... أساطير وخرافات

10/05 16:18

كثيرةٌ هي الأقوال المنقولة عن أدباء وثوار ومناضلين عن "عاشوراء"، شرحاً لمعانيها وتفصيلاً لأهدافها. في العام 1961 للهجرة النبوية، سطر الحسين بن علي (ع) ملحمةً تاريخية بوجه الحاكم آنذاك، يزيد بن معاوية، واستمرّ صدى الملحمة لأيامنا هذه، فالحسين انتصر بدمائه وحجز له مكاناً في صفحات التاريخ الثوري الإصلاحي.

الحسين في رسالته لأخيه، محمد بن الحنفية، شرح أسباب خروجه على الحاكم، أو الثورة عليه، وهو ما يحرمه بعض تجار الدين اليوم، وأسهب في ذكر أسباب الثورة التي عنونها بضرورة الإصلاح حفاظاً على القيم والمجتمع، ولو أن العادة جرت على حشر ذكرى عاشوراء بالزاوية الدينية البحتة، لكن الحسين أرادها أن تكون عاملاً تغييرياً، يقوم بنية المجتمع ويصوب مساره. على أي حال، عاشوراء بقيمها هذه، ورُفعة أهدافها ونبل غاياتها، تصطدم بعدة عوامل متوارثة، تشوه صورتها.

يمكن للمتنقل بين كربلاء في العراق، والنبطية في لبنان في العاشر من محرم، أن يلحظ حجم التأثر والدماء التي تحولت سيولاً تغطي الأرض، يضرب المتأثرون رؤوسهم تأسياً ومواساةً للإمام الحسين، في مشهدٍ مهيب، ومستفز في آن واحد، فالدماء المهدورة قد تنفع لمساعدة مريضٍ محتاج. وقد واجهت ظاهرة "التطبير" العديد من الانتقادات. بعض المراجع، أي علماء الدين من الطائفة الشيعية حرموها، وآخرون فرضوا عليها شروطاً واضحة، عندما يصبح التطبير وسماً يشوه الصورة العامة، فهو حرام. في المقابل، يصر آخرون على أن التطبير "شعيرةٌ" مستمدةٌ من كربلاء، فالتطبير تحول إلى مادةٍ جدليةٍ سنوية. ضرب الرؤوس بالأدوات الحادة والسلاسل، لطم الصدور وغيرها من الممارسات التي سميت شعائر حسينية، لم تقتصر على الكبار فقط، بل وقع ويقع الأطفال ضحيتها أيضاً.

شارك غرديعدّ التطبير طقساً مستحدثاً عند الشيعة، وصلهم من وفود الزوار من الهنود والأتراك

شارك غردالجزع في حب الحسين، لا يعني ضرب رأس طفلٍ بالموسى أو السيف، لأن ذلك يعبر عن همجية موصوفة

التطبير يعني ضرب الرأس بأداةٍ حادةٍ حتى يسيل منه الدم، لا معدل عمري له، قد تجد العجوز مطبراً والشاب، لا فرق، حتى الأطفال، ينالهم من جهل أهلهم ندوباً ستبقى محفورةً في رؤوسهم طوال العمر، بحجة تقديم النذور الدينية، هذا إن ما سلمنا جدلاً بأن التطبير مشرعٌ دينياً وهو ليس كذلك.

تحتل شاشات التلفزة في كل عام، عائلاتٌ مسيحيةٌ قد طبرت في صورةٍ تضامنيةٍ مع المصيبة العاشورائية، لكن ما الذي يدفع بالناس إلى أذية أنفسهم؟!

لشدة حزنها على أخيها الحسين، ضربت السيدة زينب بنت علي رأسها بطرف محملها، فسال الدم على وجهها. زينب شقت رأسها حزناً على أخيها، تعتبر هذه الرواية هي الرواية الرسمية الراعية للتطبير. المبررون أصحاب الرواية لا يعون حجم الضرر الذي يلحقونه بالسيدة زينب، رمز الإعلام الحسيني ومنبر القضية ما بعد المعركة. لم تضرب زينب رأسها بالمحمل، ولم يَسل الدم على وجهها، وصية الحسين كانت واضحة:"لا تشقي علَيَ جيباً، ولا تخمشي عليَ وجهاً، ولا تدعي علَيَ بالويل والثبور إذا أنا هلكت"، وصية الحسين التي حث فيها أخته على الصبر كفيلةٌ لدحض المزاعم التي تربط التطبير بهذه الحادثة.

لا يُعتبر الشيعة أول المطبرين، فالتطبير يعود تاريخياً لمرحلة ما قبل الإسلام، ظهر للمرة الأولى في العراق مع الحضارة البابلية، ويُعتبر عادةً وثنية، فالبابليون ضربوا رؤوسهم تعبيراً عن حزنهم لمقتل الإله تموز، الفينيقيون نقلوا بفعل أسفارهم وتنقلهم، واحتكاكهم بحضارات عديدة، العادة إلى بلادهم. فبعد مقتل أدونيس، ضرب الفينيقيون رؤوسهم وظهورهم حتى غطاها الدم، الفراعنة اعتمدوا الطريقة ذاتها، يضاف إليها الشعور بحرارة النار. تناقل التطبير ما بين الحضارات سمح له بالوصول إلى صلب الثقافة الشيعية في القرن الماضي. ففي منتصف القرن التاسع عشر، أصبح التطبير والتسوط وسائل مسلماً بها للتعبير عن الحزن لفاجعة كربلاء.

مارس الوثنيون في الشرق الأدنى التطبير كواحدٍ من الطقوس العبادية بحسب التوراة، يُضاف إلى ضرب الرأس، ضرب الظهر بالسيوف والرماح، التطبير لم يكن حكراً على الوثنيين والمسلمين من بعدهم. فالجلادون، وهم فئةٌ مسيحيةُ ظهرت في العام 1210 للميلاد، اعتمدوا ضرب صدورهم ورؤوسهم كوسائل للتوبة عن الخطايا وتطهير النفس من ذنوبها، وحاول الكاتب دان براون إظهار ذلك في إحدى رواياته. ذاع صيت الجلادين وتوسع نفوذهم في القرن الثامن عشر، وانضم إليها عددٌ لا بأس به من الفرنسيين والبولانديين وغيرهم. الهند وصلها التطبير أيضاً، فالهندوس، رجالاً ونساءً، كانوا يمارسونه، وأضافوا إليه ضرب الجسد بالسلاسل.

أكد المؤرخ إسحاق نقاش، في كتابه "شيعة العراق"، أن أول من أدخل التسوط أي ضرب الجسد بالسلاسل وشق الرؤوس بالسيوف إلى النجف الأشرف في العام 1919، هو الحاكم البريطاني الذي خدم سابقاً في كرمنشاه، ونقل الممارسة إلى العراق عبر الهنود الشيعة، بهدف إضعاف الحوزة حينها. وكشفت بريطانيا عن ذلك في العام 1970 في كتاب "دليل الخليج" لمؤلفه ج. لوريمر. وإضعاف الحوزة مرده إلى تأثيرها القوي على الشارع، وبالتالي قدرتها على تقويض الاحتلال البريطاني وإنهائه، فكان لا بد من إلهائها. يعد التطبير طقساً مستحدثاً عند الشيعة، وصلهم من وفود الزوار من الهنود والأتراك الشيعة ممن حملوا معهم هذه الطقوس إلى كربلاء أثناء زيارتهم لضريح الحسين. لم تقتصر البدع على ضرب الرأس، بل تجاوزتها للزحف على الأرض حتى إدماء الوجه.

نقل المفكر علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، أن اسماعيل الصفوي، حاكم إيران، استحدث وزارة خاصةً بالشعائر الحسينية، وأرسل وزيرها إلى روما للاطلاع على الشعائر الدينية ودرس إمكانية نقلها. التقى الوزير الجلادين، ونقل بعضاً من شعائرهم إلى شيعة إيران الذين مارسوها أثناء زيارتهم ضريح الإمام علي بن موسى الرضا في طوس - إيران. أما الشيخ مرتضى المطهري، فالتقى مع شريعتي في التحليل، وكتب في كتابه "الجذب والدفع في شخصية الإمام علي(ع)": "إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم"، والقفقاز هي منطقة القوقاز بين أوروبا وآسيا.

نجح الاحتلال البريطاني للعراق في إشغال الحوزة بحروب جانبية حالت دون مكافحة هذه الظاهرة، إضافةً إلى المناوشات بين الحوزة والعثمانيين، وتهديد الوهابيين من العام 1902 إلى العام 1922، إذ وصلوا لحدود كربلاء، مما أدى لتمدد البدع وممارستها. مع ذلك، حارب العلماء ظاهرة التطبير، ففي العام 1920 أصدر المراجع والعلماء أبو الحسن الموسوي الأصفهاني في النجف الأشرف والسيد مهدي القزويني في البصرة والسيد محسن الأمين العاملي فتاوى تحرّم التطبير وإراقة الدماء في مظاهر الحزن على الحسين.

استفزت فتاوى التحريم زعماء تكايا التطبير، فقام علي القمي، زعيم إحدى هذه التكايا، بقطع رأس نجل السيد أبي الحسن الأصفهاني حياة ابنه حسن الموسوي الأصفهاني، ورميه في حجر والده أثناء صلاة الجماعة بتهمة الحرب على الشعائر الحسينية!

التحريم لم يقتصر على العلماء المذكورين أعلاه، فقد صرح السيد محسن الحكيم بأن: "هذه الممارسات (التطبير) ليست فقط مجرد ممارسات… هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة، بل هذه الممارسات أيضاً مضرة بالمسلمين، وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت عليهم السلام ولم أرَ أياً من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بأن هذا العمل مستحب يمكن أن تقترب به إلى الله سبحانه وتعالى. إن قضية التطبير هي غصة في حلقومنا". أما السيد أبو القاسم الخوئي فأورد ما نصه:"لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه"، بينما اتخذ السيد محمد باقر الصدر موقفاً متشدداً في رفض التطبير، فبرأيه: "إن ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم، ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه".

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل