المحتوى الرئيسى

الحياة الوردية

10/05 13:06

هو ذلك الإحساس بالاستمتاع الفعلي، مُستلقٍ تحت أشعة الشمس، على رمال شاطئ ذهبية، ووَقْعِ الباعة المتجولون بقفشاتهم وعباراتهم الكلاسيكية والأصلية، عن يمينك عائلة كبيرة يحمل أبوهم بطيخة كبيرة، وعن شمالك عاشقان يداهما متشابكتان حباً أو خوفاً من أن يهرب أحدهما من الآخر اختر ما شئت حسب زاوية الرؤيا وخلفية العقلية، من ورائك شلة مراهقين تتوسطهم أرقيلة، يقول أحدهم للآخر: "الأرقيلة أخذ وعطاء وليست فرشاً وغطاء"، بمعنى لا تحتكرها بل مررها بعد سحبة واحدة، أمامك جمع من الأطفال مرحين فرحين يذكرونك بأيام العز، ومن فوقك سماء صافية نقية يضيع فيها الخيال، على مرأى من عينيك بحر هادئ جذاب، حينها فقط تقول "اللعنة، هذه هي الحياة".

ولأننا شعب نحب النكد، في عز استمتاعك تتذكر أسبوعك العسير، تقول كان أسبوعاً للنسيان، ولكنك لن تنساه، خاصة وأنت تعلم أنه ينتظرك أسبوع عمل شاق ابتداء من الاثنين أطول أيام الأسبوع عادة، أكثر المهن تعباً نسبياً مهنة البَنَّاء الذي يعمل يوماً كاملاً غالباً تحت أشعة الشمس الحارقة، وقد وعينا هذا منذ صغرنا، أذكر أنه في أيام الإعدادية والثانوية كان لنا يوم دوامه من الثامنة صباحاً إلى الثانية عشرة ظهراً ثم من الثانية زوالاً إلى السادسة مساء، كنا نطلق عليه في الجدول الزمني يوم البَنَّاء، فيسألك صديقك ما دوامك اليوم الفلاني؟ فتجيب دَوَامُ بَنَّاء، فيفهم أنه يوم مكتظ لا راحة فيه، من نَحْسِي وزملائي في القسم كان غالباً ما يصادف يوم البناء يوم الاثنين في الجدول الزمني، ما إن يُزَفَّ إليك الجدول الزمني في بداية السنة، حتى تبدأ في حساب كم يوم ستكون فيه بناء، وأي أيام الأسبوع ستكره طيلة السنة، تَنْسَخُ الجدول الزمني مردداً في نفسك تلك المقولة "علامة اليوم الجميل، صباح جميل".

الحياة الوردية مبلغ أحلامنا، حياة الاستمتاع حيث لا قيود، ولا عذاب ضمير، ولا التزامات ولا وجع رأس، ولا يوم بَنَّاءٍ، أعلم أنا بصدد وصف جنة من جنان الأرض، أو بلد من بلاد العجائب التي لا نراها إلا في الرسوم الكارتونية أو المسلسلات المصرية والتركية، تخيل نفسك منهم ولو لوهلة، تسريحة شعرك دائماً متقنة حتى وأنت في فراشك مستيقظاً من نوم عميق، ثم تستفيق ليأتيك الفطور على السرير، وليته من الشغالة، لا حاشا مقامك، الفطور لا يأتيك إلا من عند ملكة جمال فازت بالمسابقة وانتدبوها لهذا الدور الهيتشكوكي النمطي.

الحالة الوحيدة التي ترى فيها صاحب مال كثير لا يداخله توتر ولا اجتماعات ووقته كله يقضيه في الاستمتاع، وهي الحالة الوحيدة أيضاً التي تجد فيها عارضة أزياء بأظافرها المرصعة تعد الفطور، ينعمون بصحة جيدة ولديهم مال وفير ووقت كثير، لا ينقصهم إلا الحب، كلهم أصحاب فيلات ومزارع وملاعب غولف وحياة عز، الحياة الوردية التي يجتمع فيها المال والصحة والوقت هي ضرب من الخيال، وقد قالها بلال رضي الله عنه: "ليس من طبع الحياة تمام الحظوظ وإلا استغنى الناس عن الناس".

أَسَأْتُ الظن بهذه النفس البشرية المتناقضة لدرجة القول إن الإنسان لو أتيح له العيش دون مشكلات وعقبات لاختلق المشكلات والعقبات وعمل على حلها، فتجد الناس تطلب البعيد وتهرب من القريب، تنأى عن كل ما هو متوافر متاح، وتبحث عن كل ما هو صعب المنال، وذلك كله ليس للشيء المطلوب بقدر ما هو لإثبات الذات، ولذلك ما إن تصل إلى الشيء المطلوب حتى يصبح مألوفاً، فَتَهُمُّ بالهرب منه بحثاً عن شيء أكثر صعوبة وأكثر تحديا، فتضيع حياتك كلها في طلب المجهول دون استمتاع.

تعمل وتحلم بحياة وردية، ثم تخرج لتستمتع فتتذكر عملك ومشكلاتك وترافقك إلى عرض البحر وباحة الغابة، وتهيم في البحث فيها، وعن حلها، وتنسى أن اليوم عطلة، فتقضي العطلة تفكر بالعمل ومشكلات الحياة، وتقضي مشكلات الحياة والعمل وأنت تحلم بالعطلة، دوامة لا تنقضي إلا بانقضاء الأجل، أي عذاب أشد وأفتك من هكذا عذاب.

تنتهي حينها إلى القول إن الحياة الوردية شيء لا يعاش، الحياة الوردية هي سعادة لم تعشها بعد، هي بحر لم تسبح فيه بعد، فكل البحور التي زرتها قد أصبحت عادية بعد أن رأيتها وجربتها، هي صباح هادئ جميل لم تنعم به بعد، هي أجمل عصير فواكه لم تشربه بعد، هي قصيدة لم تكتبها بعد فكل ما كتبت عادي قد أصبح مألوفاً، هي فِكْرَةٌ أجمل من سابقاتها لم تأتك بعد، هي وطن حلمت به لم تعش فيه بعد، هي طريق مشيت فيه أُعْجِبْتَ به حد الإلهام لم تجده بعد، هو شاطئ نظيف هادئ مُنَظَّم لم تستلق على رماله بعد، هي أجمل فنجان قهوة تشربه في كامل صحتك وراحة بالك عند مغرب يوم ربيعي جوه معتدل ونسيمه عليل لم يكتمل بعد، هي لحظة نجاح لم تصله بعد، هي كتاب لم تسافر بين صفحاته بعد، هي جلسة عائلية أو رفقة أعز أصدقاء لم تجلسها بعد، هي حب لم تعشه بعد، وستموت وأنت تقول أجمل لحظة لم أرَها بعد، ولن يتسنى لك إلقاء نظرة على شريط حياتك لتقييمه وتحديد لحظات حياتك الوردية.

تفهم أخيراً أن الحياة الوردية إحساس غير مادي، لا يرتبط بما ترى وتسمع ولكن بما تحس، فقد قيل أكثر الناس حرية هو من يستطيع أن يعيش حراً في العبودية نفسها، فالحياة الوردية تعاش حتى في يوم البَنَّاءِ، على أن يَبْلُغَ البال قدراً عالياً من الصفاء، ويكون الجسم في صحة وهناء، وتعلم كيف تستمتع ومتى يكون الاسترخاء، وتُكِنُّ لأهلك وأصحابك المحبة والثناء، فترى مواطن الجمال على كثرة قُبْحِ الدهماء، وتعيش في الأرض ونفسك في أعلى السماء، وتخترع لنفسك نشاطات واهتمامات فيها لروحك شفاء، وتُنَظِّم حياتك نظاماً يجعل منها وردية حتى في الشقاء، يُكْتَب لك حينها عَيْشٌ رغيد ورخاء، وتصبح ملكاً على نفسك لا تَهُزُّكَ الأحداث ولا كيد الأعداء.

فَتَشْمَلُ الحياة الوردية حينها كل تفاصيل حياتك بإخلاص ووفاء، ليخترق ظلامك أسهم من الضياء، وتختفي شكواك من العياء، وتخلو حياتك من كل رياء، وتعلو همتك وعزيمتك حد السماء، تعود حينها إلى بيتك بعد يوم عمل ومشكلات واحتفال واسترخاء، تتخذ متكأ وتقضم قضمة أو تشرب شربة من أجمل ما لديك وتوفر في بيتك فتقول مستمتعاً "اللعنة، هذه هي الحياة".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل