المحتوى الرئيسى

ثقافة الائتلاف وآداب الاختلاف "2 - 2"

10/04 12:44

إن الاختلاف في الرأي من مصادر الإثراء الفكري، ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرّره الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف الحميد "وشاورهم في الأمر" [آل عمران: 159]، وهذه كانت طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فيما لم ينزل به وحي.

أسباب الاختلاف بين الناس بصفة عامة: الاختلافات من حيث أسبابها وجذورها نوعان، كما ذكرها محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ الجدل: خلقية، وفكرية.

1 - الغرور بالنفس، والإعجاب بالرأي.

2 - سوء الظن بالغير، والمسارعة إلى اتهامه بغير بيّنة.

3- حب الذات واتباع الهوى، ومن آثاره: الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب.

4- التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف.

5- العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد.

وهذه كلها رذائل أخلاقية عُدّت من المهلكات في نظر علماء القلوب، والاختلاف الذي ينشأ عن هذه الرذائل أو المهلكات، اختلاف غير محمود، بل هو داخل في التفرق المذموم.

وأما الاختلافات التي سببها فكري، فمردها إلى اختلاف وجهات النظر في الأمر الواحد، سواء كان أمراً علمياً، كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية، أو كان أمراً عملياً، كالخلاف في المواقف السياسية واتخاذ القرارات بشأنها، نتيجة الاختلاف في زوايا الرؤية، وفي تقدير النتائج وتبعاً لتوافر المعلومات عند طرف، ونقصها عند طرف آخر، وتبعاً للاتجاهات المزاجية والعقلية للأطراف المتباينة، وتأثيرات البيئة والزمن عليها سلباً وإيجاباً.

ومن أبرز الأمثلة لذلك: الاختلاف حول المشاركة في الحكم في دولة لا تلتزم بتطبيق الإسلام كله، والتحالف مع بعض القوى السياسية غير الإسلامية أو غير المسلمة، لإسقاط قوة الطاغية التي تخنق كل رأي حر، وتخرس كل صوت حر، إسلامياً أو غير إسلامي، مسلماً أو غير مسلم.

وبعض الخلاف هنا سياسي محض، أي يتعلق بالموازنة بين المصالح والمفاسد وبين المكاسب والخسائر، في الحال، وفي المآل، وبعضها فقهي خالص، أي يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي في الموضوع: أهو الجواز أم المنع؟ وبعضها اختلط فيه النظر الفقهي بالنظر المصلحي والسياسي.

ويمكن أن نجمل آداب الاختلاف في النقاط التالية:

أولاً: التسامح: وهو ما يسمونه الروح الرياضية، وهو من معاني قولهم: "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، وهو شأن العلماء، فلقد قيل للإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، صاحب الإمام أبى حنيفة، رضي الله عنهما: "وجدنا فأرة في مرجل الحمام"، وذلك بعد أن اغتسل فقال: "هو طاهر عند أخينا الشافعي؛ لأنه بلغ أكثر من قلتين فلا يحمل الخبث"، وصلى الإمام الشافعي بمسجد الأعظمية في بغداد، فلم يقنت لصلاة الفجر، فلما قيل له في ذلك قال: "استحييت من صاحب هذا القبر أن أخالف مذهبه"، أي أبو حنيفة رضي الله عنهما.

ثانياً: التحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات: فالمنافق إذا خاصم فجر، والمؤمن يخالف غيره، لكنه يوقّر الكبير ويرحم الصغير، ويعرف للعالم حرمته، ويحفظ حقوق الشيوخ، ويعرف مقامات الناس، وأوزان الرجال، وقيمتهم.

قال الله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" [النساء: 114].

ثالثاً: الحلم على المخالف في الرأي ومحبة الخير له: وهو مدعاة للوصول إلى الحقيقة التي هي هدف الجميع، فالغضب لا يأتي بخير، ولا يحل مُشكلاً، بل يُعقّد الأمور، وأن الإنسان يخالف في الرأي غيره، وليس من مقتضى ذلك أن يخاصمه ويشاجره، بل أن يأخذ بيده برفق إلى درجة يرى بها نور الحق فيسير خلفه، فالحكيم من أنقذ غيره بالحلم، وفي الحديث: "لا تغضب ولك الجنة".

رابعاً: الاحترام المتبادل للأشخاص والأفكار: إن أهم ما يمّيز الخلاف العلمي أنه خلاف بين الأفكار لا بين الأشخاص، فالأشخاص المختلفون لهم حرمتهم ومكانتهم، وهم بلا ريب من أهل العلم والفضل، ولا يجوز تجاهلهم لمجرد خلاف شجر بيننا وبينهم، أو النيل من كرامتهم، فلا خلاف مطلقاً بين أشخاصنا وأشخاصهم، بل بين أفكارنا وأفكارهم، فنحن في نظر أنفسنا رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأيهم خطأ يحتمل الصواب، ما دام الخلاف في الفروع، وقد عظّم الأئمة الأربعة بعضهم بعضاً في حياتهم وبعد الوفاة، وكانوا القدوة المثلى في هذا الأدب الجم، وإن وُجد فليس القاعدة ولا الأصل، بل الاستثناء والشذوذ.

خامساً: الرجوع إلى الحق ولو مع الخصم: وهذه من سمات الصالحين، وإلا كانت مهاترات وجدلاً فارغاً لا طائل منه، فبهذا الإخلاص للعلم وللحقيقة المجردة عاشوا للحق وللحق وحده، فقد رُوي أن الإمام أبا حنيفة، رضي الله عنه وعن سائر الأئمة الأعلام، وكان في بدء أمره مُتكلماً نظاراً، رأى ولده حماداً يناظر في المسجد فنهاه، فقال له ولده: أما كنت تناظر؟! قال: "بلى، ولكن كُنّا كأن على رؤوسنا الطير من أن يخرج الباطل على لسان الخصم، بل كُنّا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم كذلك فنعم"، وقال الإمام الشافعي، رحمه الله: "والله لوددت أن يظهر الله الحق ولو على لسان خصمي".

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل