المحتوى الرئيسى

«قصر الضابط الإنكليزي» ..الحلم العراقي

10/04 01:09

لا نفهم من عبارة «نص روائي» التي تتصدر «قصر الضابط الإنكليزي» لعبد الأمير الركابي إلا أن المؤلف شاء أن يقول «رواية» بطريقة أخرى إلا أننا لدى قراءة النص نكتشف أنه حقاً رواية بطريقة أخرى. «قصر الضابط الإنكليزي» ولو أن هذا يخالف قليلاً تقسيم الكتاب مؤلف ضمناً من أربعة نصوص. يمكننا أن نسمي النص الأول «الحلم العراقي» وهذه التسمية قد تذكر قليلاً بـ «الحلم الأميركي» ولا تعني التسميتان سوى أن البلد المذكور هو أرض الحلم ويبقى مهما عدا عليه الزمان أرض الحلم. في النص الأول نزوع إلى التفكير، بل التفلسف فيما هو العراق، العراق تاريخاً وتراثاً وثقافة، ورغم أن التأمل طابع هذا الجزء إلا أن نبقى في حدود التململ أو التوتر الذي يسبق فكرة لم تولد بعد على حد تعبير نيتشه في «قضية فاغنر» أو الوعد بفكرة قادمة «نيتشه». نصل إلى أن العراق بلد الحلم فنحن هنا في التاريخ الذي يشبهه الكاتب في النص الرابع الأخير على لسان الأركيولوجي جميل علوان بأنه دولاب المئة باب وباب، ويفسره بأن للأحداث والتواريخ أبواباً والأحداث تدخل منها تلتقي أو تتعارض لكنها «في النتيجة تتداخل». قد يكون «قصر الضابط الإنكليزي الذي شرع ببنائه ستيفن الضابط الرؤيوي الذي دخل إلى العراق في سياق الاحتلال الإنكليزي، العراق الذي كان فيه باقر وجميل علوان وهاشم وهم بالجملة فلاسفة تاريخ والتاريخ العراقي هو موضوع فلسفتهم، فهم في النهاية باحثون عن مبدأ العراق وروحه ومعناه. علاقة هؤلاء بستيفن بديهية فهو أيضاً مشغول بالموضوع نفسه وكذلك حبيبته وزوجته فيما بعد مرغريت، وسينتقل هذا الشاغل إلى حفيدة هربرت. هم جميعاً يتأملون في العراق الذي يبقى لغزاً ويبقى متصلاً بالخيال والحلم انه مكان صناعة الأحلام لكنه أيضاً مكان صناعة القصص وليست القصص بحت وقائع أو أخباراً، انها أيضاً فوق الواقع بل هي أحياناً نقيضه. انها تتحداه وتغلبه، ورغم ان «القصص» تكاد تكون مصطلح الرواية الخاص، فإنها بحاجة إلى أن نتأولها، قد تكون الملاحم أقرب الألفاظ التي نعرفها إليها، الملاحم التي هي تسام وإعلاء لتاريخ الشعب. عند هذا الحد قد نفكر بنوع من الفلسفة القومية أو لنقل فلسفة وطنية، العراق موضوعها ومنطلقها والتاريخ العراقي الذي لن يلبث أن يعود إلى جادته الدهرية هو مسارها.

قد يكون «قصر الضابط الإنكليزي» الذي شرع في بنائه الضابط الإنكليزي ستيفن المتأمل الشغوف بالحلم العراقي، والذي أكملته بعد مصرعه زوجته مارغريت وأوكلته إلى شريكه العراقي ناصر المجلى، قد يكون هذا القصر رمز كونية المشروع العراقي، لكن مقتل الضابط قد يكون قصة عراقية فهو، أياً كانت مشاعره، محتل، وليس عبثاً أو صدفة بحتة انه قتل بالفالة وهي سلاح سومري يتخذ لصيد السمك. كان الالتباس جعله الشريك الكوني في المشروع العراقي لكنه أيضاً المحتل، انه أيضاً التباس تاريخي عراقي بين كونية المشروع العراقي ومحليته، بين وطنيته (عراقيته) وعالميته. وإذا كان القسم الأول من الرواية يبدأ بالاحتلال الإنكليزي فإن القسم الثاني والثالث ينفذان إلى «القصص» والقصص كما أسلفنا هي تقريباً الملاحم الشعبية، انها التاريخ البطولي ما فوق الواقعي لهذا الشعب، بل هي الذاكرة الجمعية.

لذا تبدأ القصص بملحمة مزبان. مزبان قد يكون ضرباً من روبن هود عراقي. انه ابن العشيرة الخارج عليها والخارج على الأعراف وعلى النظام القبلي كله. ليس مزبان مجرد خارج، انه ثائر وراديكالي، انه متمرد على النظام القبلي في قدس أقداسه، وهو أسطورة الشرف القبلي التي تحجر على المرأة وتصم الحب. انه نصير المظلومات كما هو نصير المظلومين. لذا يؤاخي صبحة التي تحب وتريدها العشيرة أن تتزوج قريبها، يؤاخيها لكي يحميها من أخوتها الذين يترصدونها وتموت ذبحاً بأيدي أحدهم بعد أن تمردت على قانون العشيرة والتحقت بوليفها. هكذا هي القصص، انها التاريخ البطولي الذي يخلخل القواعد والنظم. ولعل قصة فالح مثال على صناعة القصص ففالح الذي لم يكن خارجاً ولا متمرداً صنعته القصص، فقد راق لراضيه قريبته أن تؤلف عنه القصص التي تضعه أمام مخاطر لم يسع إليها، وظلت هذه القصص، تتوالى حتى غدت حقيقة ففالح خرج من رحم القصص والقصص صنعته حتى بات منها. لقد وجد نفسه يواجه في الماء ستة أخوة وأباهم واستطاع أن يقتل الجميع وأن يوسدهم الضفة.

تتتالى الملاحم حتى تصل إلى ملحمة حقيقية هي ملحمة الأهوار المنسية تقريباً، حين أعلن جناح القيادة المركزية في الحزب الشيوعي الثورة في منطقة الأهوار. غطى على هذه الثورة مصير الأمين العام الذي تساقط في السجن وبقي الجانب البطولي منها مغموراً، وها نحن نجد أصداءه في رواية الركابي الذي لا بد أن نشير فيها إلى جمال السرد الذي تناول هذه القصص وخاصة قصة مزبان.

في القسم الرابع من الرواية ومع الاحتلال الأميركي، نجد هربرت حفيد ستيفن الأميركي ونعود إلى التأمل في العراق الذي لا تخرج الرواية كلها عنه. انها الحاجة إلى بداية جديدة و «بدء ابراهيمي آخر» لماذا لا يعود إبراهيم إلى أرضه الأولى ويبني بيت الله الثالث» ما نحتاجه هو «صحوة جديدة» استعادة لمجد النبوة» فالوعي ينفصل عن الوقائع وما حمل ستيفن على أن يفعل ما فعله هو ضيقه بالواقع والوقائع واختلافه عنها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل