المحتوى الرئيسى

سيد قطب والأصولية الإسلامية

10/03 10:51

لا يزال الشهيد سيد قطب (1324 – 1386هـ/ 1906 – 1966م) كتابًا مجهولاً لم تفتح صفحاته بعد، إلا الفصل الأخير من حياته! وقد نسبت إلى سيد قطب فكرة المسؤولية عن هذا الطوفان من الجماعات الإسلامية، وأعمال العنف والعنف المضاد التي لصقت بها غير أن تلك الظاهرة تعد أوسع نطاقًا وأعمق من أن تنسب إلى فرد أو فكر أو كتاب.

لذا كانت مهمة هذا الكتاب تتبع سيرة سيد قطب وتحولاته العاصفة وأثرها على الفكر السياسي لمختلف الجماعات الإسلامية، وجذورها الكامنة في المسار السياسي والاجتماعي والأيديولوجي المصري الحديث، وأثرها على مسار التنوير العربي كله، وقد توزع هذا التحليل وهذه المقاربة على مساحة خمسة فصول:

يهدف الفصل الأول من هذا الكتاب إلى تتبع حياة سيد قطب في غناها وتنوعها وتطورها واستكشاف بعض الخطوط الأولية لتفسير هذه التطورات العاصفة التي تبدو شديدة الغرابة والتفرد!

فقطب ولد بإحدى قرى صعيد مصر (موشا) بأسيوط، واصطدم مبكرًا بالمدينة (القاهرة)، واضطر للعمل لاستكمال دراسته، وفي النهاية حصل على إجازة دار العلوم ليعمل مدرسًا أوليًّا في أوائل الثلاثينيات، وحصل خلالها على ثقافة عربية كلاسيكية، ولكن الكنز الذي اغترف منه ما شاء كان العقاد الذي اعتبره أبًا ومثلاً أعلى، واصفًا شعره بأنه لم يجتمع قط لشاعر عربي، ولا اجتمع لعشرة من شعراء العربية في جميع العهود!

كما خاض عددًا من المعارك الأدبية دفاعًا عن أستاذه، ولكن هذا المثال النادر بدأ ينهار أمام عينيه في غمرة التحولات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، حيث وضع مدرسة العقاد على موضع النقد، قائلاً: "إن الإحساس العظيم... لا الفكرة العظيمة الذي ينشئ شعرًا خالدًا"!

ولقد مر قطب في عقوده حياته الأولى بفترة تحولات عديدة، تغيرت فيها عناصر رؤيته الأدبية والسياسية والاجتماعية والروحية، ولم يعد ينقصه سوى النقلة الأخيرة حتى يتحول هذا كله إلى عقيدة، ويتم تجميع الخيوط جميعها في وحدة قائمة على فهم أصولي شامل وجامع للإسلام.

وفي الفصل الثاني طرح سيد قطب رؤية شاملة للإصلاح الاجتماعي أطلق عليها اسم "المجتمع المتوازن"، الذي يعني نوعًا من العدالة الاجتماعية يقوم على مبدأ تكافؤ الفرص بتوفير الرعاية الصحية والتعليم لكل فرد، ومحاربة الفساد والمحسوبية، وكل ما يعوق المساواة المطلقة في فرص النجاح.

وبما أن المشروع الإصلاحي سلطوي يقفز على المجتمع من أعلى، وتقوم به أجهزة الدولة، فواجب الدولة: حشد وتعبئة وإمكانات وجهود الشعب سواء رضي أو لم يرض, فمن واجب الدولة أن تفرضه عليها فرضًا.

وحرص قطب على التأكيد على ضرورة استلهام الواقع المصري في التخطيط، وعدم نقل المشاريع الأوروبية نقلاً آليًّا؛ لأنها محكوم عليها بالفشل لبعدها عن الواقع، ولأنها تنم عن روح التقليد المنافية لروح الإبداع.

أدت التجربة بقطب إلى الاقتراب من إدراك أكثر واقعية لطبيعة الإصلاح الاجتماعي، والسياسات الاجتماعية عمومًا، باعتبارها عملاً سياسيًّا في المقام الأول، وفي ظل سيطرة كبار الملاك على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية وتداخلهم مع كبار رجال الأعمال أدرك استحالة إصلاح عقلية النظام الحزبي أو الطبقة الحاكمة.

ويرجع الفضل في تنبيه قطب إلى إمكانية بناء تصور عن العدالة الاجتماعية على أسس إسلامية إلى الشيخ محمد الغزالي من خلال كتابه "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" الذي احتفى به وقدمه للقراء: "لأول مرة يعاد عرض الأوضاع الاقتصادية في العصر الحديث في ضوء الإسلام، وأن يحكم الإسلام في شجاعة ومنطق.. في النظم الاقتصادية السائدة".

واجتهد قطب في الاستفادة من هذا الكنز وتطويره استنادًا إلى خبراته بالمشكلات الاجتماعية وثقافته العربية المتكاملة، وكانت نقطة انطلاقه الجديدة هي ضرورة إعادة تنظيم المجتمع وفق تصوره الخاص عن الإسلام، وبمعنى أوضح فإن "المجتمع المتوازن" في التصور الجديد هو: المجتمع الإسلامي.

وهكذا.. فبدلاً من إصلاح العقلية الاجتماعية، هناك مشروع جديد، مشروع إسلامي يستند إلى العقيدة، وبدلاً من المثل الإنسانية العليا هناك الفلسفة الإسلامية.

فيأتي الإصلاح الاجتماعي منبثقًا من عقيدة دينية، ومستندًا إلى سلطة إلهية عليا، فالإسلام في تصور قطب "نظام مستقل متكامل لا يشبه أي نظام آخر كالرأسمالية أو الشيوعية أو الاشتراكية.."، ويكمن جوهر العقيدة الإسلامية وتميزها في قيامها على "التوحيد والتوازن المادي والروحي، وبين الجسد والروح"، وعلى هذا النحو بدأ قطب يرسي منذ اللحظة الأولى لتوجهه الإسلامي، قواعد ما سيعرف بعد ذلك باسم "الأصولية الجديدة"!

الثورة بين الروح القومية والروح الأصولية الإسلامية

وفي الفصل الثالث يرى المؤلف أن الداعية "المتمرد" سيد قطب قرر التوجه إلى الأمة للإطاحة بالدولة، وتحقيق مشروعه وهو لا يملك سلاحًا سوى قوة الكلمة التي كان يؤمن بقدراتها المطلقة.

وفي نهاية 1946م أعلن كفره بالحضارة الغربية إجمالاً، ونسب ظاهرة الاستعمار إلى روح هذه الحضارة: ليس الأميركان خيرًا من الإنجليز، وليس الإنجليز خيرًا من الفرنسيين كلهم أبناء حضارة واحدة حضارة مادية بغيضة لا قلب لها ولا ضمير.. إنه ضمير مادي، ضمير الآلة...!

وفي نهاية 1948م، رأت السلطة الحاكمة ابتعاثه إلى الولايات المتحدة في بعثة شبه إجبارية، للحد من غلوائه وتقويمه، ولكن الهدف لم يتحقق، وعاد من الشاطئ الآخر أكثر عداءً للغرب والولايات المتحدة خاصة!

وفي تلك الفترة (1951 – 1952م) كان لقطب برنامجان سياسيان: برنامج حد أدني، يرمي للإطاحة بالاستعمار والطبقات المتحالفة معه، وبرنامج حد أقصى يرمي إلى بناء الدولة الإسلامية.

يقول المؤلف في الفصل الرابع كان أشد ما تمخضت عنه محنة 1954م لجماعة الإخوان المسلمين، ليس انهيار التنظيم القوي وتفكيكه والتصدعات التي نجح العسكر في إحداثها في صفوف الأفراد فقط، ولكن هشاشة البناء السياسي، ليس فقط على صعيد الإستراتيجية أو التكتيك، بل أيضًا على صعيد غياب أي مفهوم عن السلطة لديهم.

وكانت أول أزمة أطلت برأسها هي غموض علاقة الجماعة بالسياسة، فالإمام المؤسس حسن البنا وصف دعوة الإخوان المسلمين بأنها "دعوة سلفية، وطريقة صوفية، وهيئة سياسية، ..." فجمع هذا التعريف منذ البداية بين فكرة الحزب والجماعة الدعوية، ولكن حين تنتقل الجماعة إلى التمثيل السياسي تجد نفسها واقفة في الفراغ، بحسب تعبير المؤلف.

وفي مواجهة ذلك، أفرزت المحنة أهم أفكارها الحادة، وصاغها قطب حول ثلاث مقولات جوهرية:

1- الحاكمية: التي تضع في صيغتها القطبية محور الإسلام عقيدة، حول فكرة الحكم الإسلامي: الإسلام هنا حاكم وحكم، له قضية مركزية، هي تحكيمه وحده في شؤون الحياة، بحيث تصبح الحياة تطبيقًا للإسلام، وتقوم على إسقاط النصوص طبقًا لتفسيرها على الواقع، وعلى حد تعبير قطب: مبدأ الحاكمية هو العقيدة، وهو الإسلام، وليس وراءه من هذا الدين كله إلا التطبيقات والتعريفات!

2- الجاهلية: والنتيجة المقصودة هي أن: "الإسلام اليوم متوقف عن الوجود مجرد الوجود"، و"العالم يعيش كله في جاهلية تتمثل في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة".

وبعد وضع الحدود المطلقة بين الجاهلية والإسلام، وحفر خنادق الحرب بينهما، وتميز الرايات بشكل قاطع: تبقى مهمة الإجابة عن السؤال السياسي الإستراتيجي: ما العمل؟ لمواجهة هذه الجاهلية؟ وكيف تتم عمليات البعث الإسلامي ومواجهة الدولة القومية المستقلة تنظيمًا ودعائيًّا؟!

وكان الجواب: المقولة الثالثة "العصبة المؤمنة" أحد محاور الفصل الخامس والأخير.

تحت هذا العنوان وفي الفصل الخامس يقول المؤلف الفكرة القطبية كانت تقوم على تكوين "العصبة المؤمنة" المفترضة، التي كانت تستدعي عدم إضاعة الوقت في فرض التشريع الإسلامي بالقوة، قبل تكوين هذه العصبة على أساس مفاهيمه، لتفاصل المجتمع فيما بعد مفاصلة جذرية، ومن هنا كان المطلوب هو هدم النظام من القواعد عن طريق العصبة المؤمنة، لا المزاحمة على النفوذ فيه!

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل