المحتوى الرئيسى

الهجرة.. الطريق إلى بناء المجتمع أم الدولة؟ محاولة للفهم

10/02 13:11

تتجدد الذكرى ويهل الاحتفاء بها، فهل لا بد أن يكرر الكاتب طرحه السابق دون أن يحاول استلهام الجديد والبحث الدقيق عما يكون قد فاته في خضم التأمل السابق؟! وهل يتقيّد حتى الموت بقيد الفكرة المطروحة منه سلفاً كونها لاقت ترحيباً من قارئ أو متابع؟ إن كان هذا القيد حتمياً، فما قيمة التجدد والتطور والنمو إذن؟!

لقد كتبت احتفاء بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل دراسة قصيرة بعنوان "الهجرة وقصة بناء دولة النبي".. ورغم ذلك لا أظنني حسمت في نفسي إجابة السؤال المطروح عنواناً لتلك الإطلالة حسماً نهائياً بعد.. فهل كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم طريقاً لبناء المجتمع أم الدولة؟ وأي البناءين يسبق الآخر؟ وما الأهمية النوعية التي يتمتع بها كل من البناءين في ضوء دراسة السيرة النبوية وتاريخ المسلمين؟

إن طرح هذه الأسئلة في ذكرى الهجرة ليس تنظيراً فلسفياً بعيداً عن واقع حركة فكر ووعي المسلمين اليوم، لا سيما دعاتهم ومصلحيهم الذين يستلهمون من التطبيق النبوي الشريف لقيم الإسلام على أرض الواقع إلهاماً لدعوتهم وحركتهم في عالم اليوم.. لأننا نجد فكرة الدولة الحديثة وعلاقتها بمنهج الإسلام في واقعنا المعاصر تكاد تنحصر بين ثلاث أطروحات فكرية هامة تؤصّل تقريباً لكل الحراك الحادث في مجتمعات المسلمين، وتشكّل نظرتهم وبالتالي تعاملهم مع تلك المجتمعات، كما ترسم ملامح تعاملهم مع الآخر إقليمياً وعالمياً..

الأطروحة الأولى: تُعطي الأهمية القصوى للدولة الحديثة باعتبارها أولوية تكاد تكون مطلقة في كل حركة إصلاحية تعتمد على الإسلام تأسيساً، وهو الطرح السائد في فكر ما اصطُلح على تسميته بـ"تيار الإسلام السياسي" إجمالاً.. وهذا الطرح يحصر التمكين لدين الله في الوصول إلى السلطة، ويجعل غايته تطبيق الحكم بمرجعية إسلامية.. وهذا طرح يغالي في أهمية الدولة الحديثة ويجعلها ركناً من أركان الدين، بحيث لا يكتمل الدين إلا بقيام دولته الممكّنة في الأرض، وصولاً إلى فكرة الخلافة الحاضرة بقوة في وعي هذا التيار، وإن كانت فكرة الخلافة نفسها لم تأخذ بعد صورتها التفصيلية المحتملة في عالم اليوم أو في عالم المستقبل، فتظل أقرب إلى الفكرة الهُلامية أو الحلم الطُوباوي هروباً من ثقل الواقع وأعبائه..

في مقابل أطروحة مناقضة ومناهضة تماماً لهذا المشروع الإسلامي الحركي، أُسست على المنهج السياسي والاجتماعي الغربي بالكامل وهي تُحتّم الخصام التام مع المقدس في حركة الحياة.. وترى في قضاء الغرب على السلطة الكنسية نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الحال في مجتمعنا المسلم.. وتتجاهل هذه الأطروحة طبيعة الدين الإسلامي نفسه، وتَناقُض منهجه في شؤون الحياة مع المنظومة التي أفرزتها سلطة الكنيسة في عصور أوروبا الوسطى تجاهلاً مُخلاً، وتفشل في العموم في تفسير كثير من النصوص المقدسة، كما تفشل في تفسير حركة التاريخ لا سيما في عصر النبوة ثم الدولة الإسلامية في مراحل النهضة..

ويُعاب عليها أيضاً أنها حركة تغريبية في مُجملها لا تنطلق من البيئة الاجتماعية والثقافية المسلمة، ويعيش أغلب دُعاتها في مخاصمة مع الثقافة الدينية المستقرة - تقريباً - في وعي الأمة، وإن أصروا على الحفاظ على الهوية الإسلامية فمعظمهم مسلمون بالميلاد..

كما توجد الأطروحة "البزرميطية".. وفي ظني أنها الأطروحة السائدة في عالمنا الإسلامي لا سيما القلب العربي منه، وأقصد بها الأطروحة التطبيقية التي زاوجت بين الإرث الثقافي للأمة وبين معطيات تأسيس الدولة الحديثة في الغرب.. هذه الأطروحة لم تَنْحز إلى طرح الدولة في الإسلام إلا انحيازاً شكلياً تضمن به ولاء علماء الدين التقليديين، ويتيح لها توظيف نصوص ولاية الأمر بحيث يكتسب الولاء للنظام بُعداً دينياً مرتبطاً بضمير الأمة.. كما لم تُنجز انحيازاً كاملاً للمفهوم العلماني للدولة، ويستفيد هذا الطرح - الأكروباتي - من كل المتناقضات بين المشروعين ويوظّفها بانتهازية سياسية واضحة..

الاستعراض السابق لأطروحات علاقة الدولة الحديثة بالفهم الإسلامي المعاصر لا يعكس انحيازاً لأي منها وإنما يحاول توصيف الواقع المجمل في شيء من الاختصار والتبسيط..

ولا شك أن الإسلام أولى اهتماماً كبيراً بالدولة أو السلطة أو قضية الحكم والتمكين، في إشارات قرآنية عامة مثل قوله تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقامُوا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ وأمروا بالمعروف ونهوْا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" [الحج: 41]، وقوله: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ كَمَا استخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبدوننِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55].. "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضَ" [النمل: 62]، "قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ" [الأعراف: 129].

ولا شك أن تشريعات الإسلام وقوانينه التي فرضها القرآن الكريم تستوجب قيام سلطة حاكمة، وإلا فمَنْ يقوم على تطبيق قوانين الدين سواء المتعلّقة بالأحكام الاجتماعية كالقصاص وتجريم السرقة والزنى وقذف المحصنين والمحصنات، وأحكام الزواج والطلاق والميراث وغيرها من القوانين المنظّمة للاجتماع؟، ويشرف على تطبيق القواعد الاقتصادية من عدالة توزيع الثروة وتحقيق التكافل الاقتصادي وحماية حقوق الناس؟، ومن ينظّم العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم ويدفعها نحو العدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.. وهل الحث على ممارسة الجهاد في الإسلام، هو حثٌّ على القتال القبلي أو الفردي يتحول فيه العالم إلى غابة من غابات الفوضى ومستنقعات الدماء؟.. أم أن الجهاد في الإسلام قائم لحماية دولته وسلطته وأرضه وعقيدة أهله وشريعتهم؟!

إن الدارس لحركة التاريخ يدرك بدَهية قيام الدولة في الإسلام.. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنشأ في المدينة دولة مستقلة ذات سيادة.. تكاد تكون صورة مُبكّرة للدولة الحديثة في مُجمل خطوطها العامة، ابتداء من وثيقة المدينة التي يعتبرها الدستوريون أول دستور مدني في الحكم مكتوب عبر التاريخ، إلى اعتماد فكرة التمثيل النيابي في صورة عُرفاء القبائل والعشائر، إلى تنظيم السلطة ونظم ولاية الأمر في صورة الأمراء والعمال وقادة الجند، إلى نظام السفراء والوفود إرسالاً واستقبالاً وتنظيم العلاقات الخارجية، إلى تجهيز الجيش وتنظيم حركة الدفاع والغزو.

والتطبيق العملي لمبدأ الشورى في القرآن حتى كادت كثير من الممارسات الديمقراطية الحديثة تتطابق مع تجليات التطبيق النبوي، مثل عرض القضايا الهامة على الأمة، والنزول على رأي الأغلبية، ووضع قاعدة أغلبية الثلثين في مثل ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم لوزيريه أبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما".. إلى التوجيه الحكيم الواقعي لحركة اقتصاد المدينة، إلى التوسع السياسي والعسكري في المناطق المجاورة.. لقد عرف تاريخ الدول والممالك والإمارات المعاصرة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنظيمات سياسية وإدارية وعسكرية شبيهة إلى حد ما بدولة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فكرة الدولة لم تنشأ مع الإسلام في فراغ تاريخي.. لكنها أيضاً لم تكن فكرة مؤسسة وأصيلة لدى العرب..

كما أنها أسست في بعض أقسامها وإجراءاتها إلى قيم حديثة ومخالفة لما عليه تقسيم الدول المعاصرة لها لا سيما في التطبيق العملي لمبدأ الشورى، ونظام التكافل الاجتماعي والاقتصادي، وكتابة وثيقة حاكمة، والإشارة إلى تداول "شوروي" للسلطة مع التبغيض في الملك العضوض القائم على توريث الحكم، الذي ساد هذه الحقبة السياسية.. وكلها إشارات على السبق والتفرد والمغايرة لدولة النبي عن مثيلاتها القائمة في الشرق والغرب..

وقد يعمد البعض على تبسيط تجربة دولة النبي في محدودية مساحتها الجغرافية وتعدادها السكاني، وبالتالي يخلُص إلى بدائيتها الأقرب إلى تنظيم مجتمع القبيلة أو تحالف مجموعة من القبائل والعشائر، من كونها دولة بالمعايير الحديثة للدولة..

والمتأمل الواعي لحركة التاريخ يدرك تهافت هذا التصور.. لقد وصل اتساع دولة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لا سيما بعد فتح مكة - ما يستوعبه عدد كبير من دول عالم اليوم المعاصر، ووصلت حدودها من الأردن شمالا (تبوك وما وراءها)، إلى اليمن التي كانت خاضعة لحكم النبي وعليها أمراء من عماله جنوبا، وشملت عُمان في الجنوب الشرقي، والبحرين، وشبه الجزيرة العربية التي تشكل المملكة العربية السعودية اليوم مساحتها العظمى، والسعودية ولا شك دولة شاسعة الاتساع الجغرافي في عالم اليوم..

أما من حيث عدد السكان فيكفي أن نعرف أن الذين حجّوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كانوا زهاء مائة وثلاثة عشر ألفاً، فلو أن هؤلاء كانوا يمثلون عشرة في المائة من مجموع المسلمين، - وهي نسبة ضخمة أن يخرج من بين كل عشرة واحد - لوجدنا أن تعداد المسلمين كان يربو على المليون نسمة.. ولا يخفى على أحد أن عشرات من دول العالم الحديث لا يزيد تعداد سكانها عن هذا الرقم كثيراً.. والخلاصة أن ما صلُح لسياسة دولة على رقعة جغرافية ممتدة على الأرض، وعلى عدد لا بأس به من السكان، يمكن تطبيقه على عشرات الأضعاف من المساحة والعدد باستخدام نفس المنهج والأسس مع التنوع في الأساليب والوسائل والتقنيات الملائمة للزمان والمكان والاتساع والتطور..

فلا شك بعد هذا الاستعراض أن الإسلام أقام دولة، وأن سلطة الحكم العادل الرشيد مقصد من مقاصد الإسلام.. وتوجيه من توجيهات القرآن الكريم.. وأن هذا الإقرار بالواقع التاريخي، والتوجيه القرآني يقطع الطريق على أطروحة فصل الدولة عن الإسلام قطيعة حاسمة لا تقبل التشكيك..

ويظل السؤال المطروح عن الأهمية النسبية للدولة في مقابل الأمة أو المجتمع..وهل كانت الهجرة النبوية حقاً حصراً لإقامة الدولة؟!..

في تقديري أن الهجرة النبوية المباركة كانت خطوة أساسية لبناء الأمة المسلمة - المجتمع المسلم - والسلطة ولا شك مكون طبيعي من مكونات تلك الأمة.. الإشكالية إذن ليست في ارتباط الأمة بالدولة، ولا في أن أغلب التشريع القرآني مرتبط بالجزء المدني من القرآن الكريم، حيث بيئة ومناخ التطبيق العملي الفوري للنصوص، بمباشرة النبي صلى الله عليه وسلم، وحضور صحابته الكرام.. لكن الإشكالية الحقيقية هي إعطاء الدولة في شكلها الحديث المسيطر تمام السيطرة على المجتمع، الأولوية القصوى في الفكر الحركي الإسلامي، مما يتأسس عليه أغلب الصراعات السياسية والمواجهات الاجتماعية التي يخوضها هذا الفكر والمنتمون له..

في ظل تغييب شبه كامل لدور الأمة والمجتمع وأهميته في بنية المنظومة المنشودة كبيئة تطبيق المنهج الإسلامي.. وبالتالي عدم الالتفات الحقيقي المأمول لأهمية مؤسسات العمل المدني والمنظمات الأهلية والدور الشعبي في بناء واستمرار حضارة الأمة، وهو الدور الذي لعبته باقتدار مؤسسة الأوقاف عبر تاريخ المسلمين الطويل، فحفظت على الأمة قوتها، خصوصاً في أوقات ضعف وانحدار نظم الحكم أو السلطات السياسية الحاكمة..

لقد تعاقبت على الأمة المسلمة دول، من الخلافة الراشدة إلى الأموية فالعباسية، فالعثمانية، وفي الفترات البينية، تعاقبت دول أخرى أقل اتساعاً جغرافياً، وإن كانت ذات أهمية تاريخية قصوى كالأيوبية في مصر والشام، ودولة المماليك التي أوقفت المد التتري، والموحدين والمرابطين في المغرب، وغيرها من الدول.. أي أن الدولة في العالم الإسلامي تبدّلت وسقط منها من سقط، ورفع لواءها من رفع، دون أن تسقط الأمة ذاتها أو تنجرف بحجم انجراف السلطة الحاكمة فيها.. الأمة إذن وفق حركة التاريخ لها الأهمية القصوى..

أما سلطة الحكم فما هي إلا انعكاس لطبيعة الأمة نفسها قوة وضعفاً.. ففي ظل الخلافة الإسلامية أو الإمبراطوريات الإسلامية الحاكمة، تدهورت الأحوال السياسية والعسكرية مرات كثيرة حتى وصلت إلى منحنيات جد خطيرة.. لكن الأمة المسلمة القوية والمجتمع المسلم الحيوي استطاعا أن يعيدا بناء سلطة أو سلطات جديدة استعادت انتصارات الإسلام ومجده.. وهاكم إشارات خاطفة على فترات التردي السلطوي رغم مظلة الخلافة:

1 - الخلافة الإسلامية الجامعة الموحدة لم تُعرف في تاريخ المسلمين إلا قرابة خمسة وعشرين عاماً هي عمر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عن الجميع - ثم حدث الانقسام بين علي ومعاوية، ثم اجتمعت لمعاوية بعد تنازل الحسن عام 41 هجرية، ثم ما لبثت أن تفرقت بإعلان عبد الله بن الزبير نفسه خليفة واستقلاله بالحجاز في أواخر العقد السادس من القرن الهجري الأول.. ثم عادت خلافة المسلمين فتفرقت بين الدولة العباسية على أغلب بلاد المسلمين، والدولة الأموية في الأندلس.. فالخلافة الموحدة شعار تاريخي زائف لا وجود تاريخي حقيقي له إلا في أقل القليل من عمر الأمة.

2 - في ظل الخلافة العباسية وصلت الأمة إلى أعمق مستوى لها من الانحدار في منحدر تاريخي لم يعرف التاريخ له مثيلاً عندما استولى القرامطة على الحجر الأسود من الكعبة المشرفة ومنعوا الحج إلى بيت الله الحرام، بعدما ارتكبوا مذبحة بشعة في حجاج بيت الله الحرام في البلد الحرام والشهر الحرام والحجيج مُحرمون بالحج.

3 - في ظل الدولة العباسية أيضاً اجتاح التتار عاصمة الخلافة ودمروا بغداد واستسلم لهم الخليفة الضعيف ثم قتلوه، فما صد غزوهم الوحشي إلا المماليك - وهم في الأصل عبيد عند الحكام - فانتصرت الأمة بحراكها المجتمعي وتماسكها الداخلي لا بخليفتها ولا شعار الخلافة.

4 - في ظل الإمبراطورية العثمانية اجتاح الاحتلال الغربي - إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال واليابان وغيرهم - معظم الدول المسلمة التابعة منها للإمبراطورية العثمانية وغير التابعة، ولم تستطع الدولة العثمانية المريضة قرابة قرن من الزمان مواجهة هذا الاحتلال.

لا نقصد من هذا العرض أبداً نكران الأدوار الكبرى التي لعبتها دول الخلافة المتعاقبة في فترات الازدهار.. لكننا في المقابل لا يجب أن نغفل دور الأمة ومؤسساتها التي تعبر عن مؤسسات المجتمع المدني - في صورتها المعاصرة - في الحفاظ على صلابتها وقوتها ووحدتها وهويتها وثقافتها وإرثها الشرعي بالكامل..

من واقع حركة التاريخ نقول إن الأمة هي التي تصنع الدول وهي التي تسقطها، أو قد تسقط الدول من جراء عوامل التآكل الداخلي للسلطة أو الكيد الخارجي للعدو.. لكن الأمة تظل حية لا تسقط.. ومن ثم نرى أن الأهمية القصوى لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لبناء تلك الأمة الممتدة.. والتي يجب أن يظل الحفاظ على قوتها ومتانة مجتمعها هو الشغل الشاغل والغاية الكبرى لقوى الإصلاح ودعاته وحركاته..

فإذا أقررنا معاً أن إصلاح المجتمع والعمل على تمكين مؤسساته الإصلاحية أهم وأسبق من الوصول إلى سدة الحكم.. فعلينا أن نناقش واقع الطرحين الأول والثالث في تقدير أهمية الدولة في الإسلام.. حيث يفترض تيار الإسلام السياسي في مجمله أن الإسلام غير مُمكّن له بتاتا في حكم الدول المسلمة، وبالتالي هو يؤسس لفكرة الاستبدال التام لمجمل الأنظمة الحاكمة.. ويطرح نفسه بالضرورة بديلاً محتملاً يجب أن يَحكم، فإن لم يصل إلى الحكم، فيظل الإسلام غير ممكن له في الأرض..

وتيار الإسلام السياسي - في مجمله وفق هذه الفرضية يساوي أو يدمج بين أصحاب الأطروحة الثانية ذوي النظرية التغريبية الذين يفصلون الإسلام عن نظم الحكم فصلاً تعسفياً كاملاً، وبين أصحاب الأطروحة الثالثة - البزرميطية - التي تصنع خليطاً بين الأطروحتين الأولى والثانية.. هذا الخلط في الرؤية يفرض الإشكاليات التي تعانيها الحركة الإسلامية في المنطقة، كما يفشل في الحقيقة في تفسير كثير من الظواهر السياسية والاجتماعية في المنطقة..

فالواقع أن النظم - البزرميطية - اعتمدت على الإرث الثقافي للأمة المسلمة، وهي لم تعلن معاداة حقيقية سافرة للدين وقواعده وأنظمته.. بالعكس هي تؤسس لنظم حكمها على أسس دينية وتستدعي ممثلي الدين بمناسبة وبغير مناسبة، وهذه الأنظمة لا تمارس اللادينية في الحكم، وإنما تمارس طبائع الاستبداد، وتسلك مسلك الفساد.. وهو مسلك معتاد إذا حكم وتحكم أصحاب النفوذ والقوى والمال والسطوة دون مساءلة حقيقية من مجتمع قوي حيوي يستطيع الوقوف أمام تلك السلطة الغاشمة، سواء أُسست السلطة على الدين أو تنافرت معه.. ومن هنا وجب التنويه بالظواهر الآتية:

- كيف نعتبر حكم الأنظمة - البزرميطية - حكماً معادياً للإسلام، وهو الحكم الذي يكرم في الأغلب علماء الدين ويبرزهم في المناسبات الرسمية.. ويؤصل بهم وبفتاويهم إلى نظام حكمه؟

- وهل ننكر أن قواعد الإسلام المنظمة للأحوال الشخصية ومسائل الميراث وغيرها من القوانين والضوابط الإسلامية حاضرة بقوة في واقع تلك الأنظمة والمجتمعات؟

- واستدعاء الخطاب الديني وتوظيفه لبعض رموز هذه الأنظمة في مناسبات كثيرة - بصرف النظر عن كونه في الأصل خطاباً مهلهلاً منبّتاً عن جذوره الأصيلة - لكنه يظل شاهداً على توظيف الدين في العملية السياسية.

- تيار الإسلام السياسي يرى في بعض المظاهر والقوانين الغربية تعارضاً مع الإرث الثقافي للأمة وبالتالي يُخرج الأنظمة من تأسيسها على علاقة الدولة بالإسلام.. مثل إباحة الخمور، وملاهي المجون، وشيوع البنوك الربوية، ومناشط السياحة القائمة - في بعض جوانبها - على ما يخالف قيم الإسلام، وانتهاج قطاع الفن والثقافة لمناهج تتعارض مع الأخلاق الإسلامية..

وكل هذا مُشاهد لا يمكن إنكاره أو إغفاله، لكننا في المقابل نقول: إن التيار الإسلامي أُتيح له منصة الحكم - لا سيما في أعقاب ثورات الربيع العربي - في عدد من الدول العربية والإسلامية، حزب العدالة والتنمية أكمل دورته كاملة في الحكم في المغرب - والعدالة والتنمية التركي أنهى عقده الأول في الحكم، والتجربة المصرية والتونسية بقيتا عاماً يزيد أو ينقص.. ولم نرَ في طرح وبرامج هذه القوى من حيث المبدأ ولا التطبيق منعاً للخمور، ولا غلقاً لملاهي الفجور، ولا تغييراً واضحاً في مناشط السياحة، ولا غلقاً للبنوك الربوية، ولا منعاً أو تحجيماً للأنشطة الثقافية والفنية..

بحيث لم يعد أمام دعاة تيار الإسلام السياسي سوى الاعتراف بأحد أمرين: إما التماس العذر للأنظمة - البزرميطية - القائمة بذريعة التدرج وتهيئة المجتمع ومراعاة فقه الواقع وأولوياته، وهي ذات الذرائع التي تلتمس بها لنفسها عدم تطبيقها الفوري لما تؤاخذ عليه تلك الأنظمة.. وإما الاعتراف بمشاركتها لتلك الأنظمة في تمييع قضايا الدين - وبزرمطته كذلك..

والخلاصة أننا نجد أنفسنا في حاجة ماسة لطرح فكري جديد يؤسس على:

1 - تقوية الأمة والمجتمع والتأسيس القوي لمنظمات المجتمع المدني تأسيساً حيوياً يجعلها قادرة على حماية الأمة من ضغوط الواقع خارجياً وداخلياً، ويحفظ عليها هويتها ووعيها وثقافتها.

2 - الاعتراف بأن التمكين الحقيقي الفاعل هو تمكين المجتمع، وأنه مقدّم زماناً وأولوية على التمكين في السلطة.. وبالتالي تقليص البعد السياسي مع تعظيم الأبعاد الاجتماعية للحركة الإسلامية المعاصرة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل