المحتوى الرئيسى

"الوطن" تنشر نص كلمة "الطيب" في الجولة الثالثة من الحوار بين الشرق والغرب

10/01 18:26

تنشر "الوطن" نصر كلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين في افتتاح الجولة الثالثة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب في مدينة جنيف بسويسرا.

بسم الله الرحمن الرحيم.. السيدة الدكتورة أجنس أبوم رئيس المجلس التنفيذي لمجلس الكنائس العالمي، السيد الدكتور أولاف أمين عام مجلس الكنائس العالمي.. السَّــيِّدات والسَّـــادة

السَّلامُ عليكُم ورَحمـــة الله وبركاته؛ يسعدني في البداية أن أحييكم جميعًا بهذه التحية، تحية المحبة والأخوَّة والسلام، وأن أتقدَّم باسمي وباسم الوفد المشارك من "الأزهر الشريف" و"مجلس حكماء المسلمين" بالشكر الجزيل على هذه الدعوة الكريمة لحضور هذا اللقاء الهام غير المسبوق، والذي أرجو أن يسفر عن نتائجَ وحلولٍ عملية، تقود خطانا نحن المؤمنين بالله من مختلف أقطار الأرض نحو تحقيق آمال الإنسانية في تجاوز أزماتها اللاحضارية التي أوشكت أن تعود بها إلى عصور الظلام والجهل ومنطق الغاب.

وحسنًا فعل مجلس الكنائس العالمي حين دعا إلى هذا اللقاء الذي يضم نخبة مختارة من قادة الأديان السماوية الكبرى وعلمائها، ليلتقوا في قلب أوروبا، وفي جنيف الهادئة الوادعة، وليحملوا مسؤولياتهم أمام ضمائرهم وأمام الله تعالى، في الإسهام في بعث الأمل في قلوب الملايين من الخائفين والمذعورين والمشرَّدين، وإعادة البسمة إلى البؤساء واليتامى والأرامل، مِمَّن شاءت لهم أقدارهم أن يدفعوا ثمن حروب فُرِضَت عليهم فرضًا وليس لهم فيها ناقة ولا جمل كما يقول المثل العربي.

وليس من شك في أن العالَم لم يكن في عصر ما من العصور بحاجة إلى حكمتكم وتدخلكم لتخفيف عذاباته وويلاته مثل ما هو عليه اليوم.

فهناك العديد من الإحصاءات الدولية التي تكشف عن الإنفاق المرعب لإنتاج السلاح والتكسبِ ببيعه، وإشعال الحروب بين الشعوب الجائعة لضخ الأموال في اقتصادات أنظمة عالمية كبرى لا تشعر بوخز الضمير، وهي تقتات على دماء القتلى وأشلائهم، وعلى صراخ الأطفال وعويل النساء.

وهناك السياسات الجائرة التي تعبث بمصائر الفقراء والبؤساء، وتعمل على تفكيك مجتمعاتها، وتصادر إرادة شعوبها واختياراتها، وتراهن على حاضرها ومستقبلها، بفلسفات ونظريات مُعلَنة ومكشوفة، من أمثال صراع الحضارات ونهاية التاريخ والفوضى الخلَّاقة، وكلها نظريات سوفسطائية حديثة، تذكِّرنا بالنظريات التي كانت تسعى بين يدي الاســـتعمار في القرن الماضي، لتزَيِّن للمُسـتَعْمِرينَ –والمُستَعمَرِينَ أيضًا -أن هذه الهيمنة لم تكن سطوًا على مقدرات الشعوب، وإنما كانت رسالة حضارة وتمدُّن ورقيّ، جاء بها الرجل الأبيض الآري لإنقاذ أخيه السامي من الجهل والفقر والمرض.

وكُنَّا نظن أن قادَة العالَم وحُمَاة الحُريَّة والسلام العالمي وحقوق الإنسان لن يسمحوا بمصادرة حقوق الشعوب في أن تعيش في أمان وسلام، وما كان للناس أن يخطر هذا على بالهم بعد أن اجتمعت أُمَم العالَم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأسَّسَت منظمة الأمم المتحدة، وأذاعت على أسماع الدنيا في الشرق والغرب ما يُعرف بإعلان حقوق الإنسان، وزعمت لنا أن هذا "الإعلان"، أو "الميثاق"، إنَّما وُضِعَ من أجل إنقاذ الإنسانية وحماية حقوق الشعوب، في الأمن وفي التقدم والرفاهية، وتكفَّلت المادة الأولى في ميثاقها بحفظ السلام والأمن الدوليين، وتطبيق مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء، وتحريم استخدام القوَّة، أو مجرَّد التهديد بها في العلاقات الدولية، والامتناع التام عن "التدخل في الشؤون الداخلية للدول".

ولم يدر بخلد جيلي الذي أنتمي إليه أن هذا الميثاق العالمي الذي تعهَّد بحماية المُستضعَفِينَ وردع المتسلِّطين، يصبح حبر على ورق حين يتعلق الأمر بالشعوب النامية في قارة أفريقيا، والعالمين: العربي والإسلامي، وأن هذه التعهدات التي صيغت في عبارات وردية الشكل، وتعلقت بها أنظار الأمم المغلوبة قرابة سبعين عامًا- لاتزال تعجز عن القيام بواجبها في الوقوف في وجه السياسات الجائرة الظالمة، ورغم أن ثمانية وستين عامًا مرَّت على هذا الميثاق، الذي تكفل أمام محكمة الضمير ومحكمة التاريخ بمواجهة تهديدات السلام العالمي، ووقْف أعمال العدوان بين الدول، وفَرْض الاستقرار والسلم في ربوع العالَم – فإن القائمين على حراسة هذا الميثاق لايزالون يمنحون السلام من يشاؤون ويمنعونه عمن يشاؤون، حسب الأهواء والمصالح، ووفقًا لمنطق الهيمنة والتسلط، بل حسب منهج "الظلم" الذي يبررونه بالقاعدة اللاأخلاقية وهي: "أن الغاية تبرر الوسيلة".

وأظنكم – أيُّها السادة الفضلاء- تتفقون معي في أن آفة الآفات في قضية السلام العالمي اليوم أن ترتبط - وجودًا وعدمًا - بمقاصد السياسات الدولية ومصالحها الجشعة، ومزاجها المتقلب، بعيدًا عن ضوابط الأخلاق والقيم الروحية وغاياتها الثابتة، والتي نادت بها الأديان السماوية، وفرضت على الزعماء والقادة والساسة أن يلتزموا بها إن أرادوا للناس أن يتراحموا في الدنيا ويسعدوا في الآخرة، "وفي هذه الآفة يكمن الفرق بين فلسفة الرسالات الإلهية في مفهوم "السلامِ"، وضرورته كشرط أساس للعيش المشترك، وبين معنى السلام في مفهوم السياسات المعاصرة المتقلبة حينًا، والمتصارعة حينًا آخر، والظالمة في أغلب الأحايين".

السـيِّدات والسَّــادة، لا أقول جديدًا على مسامعكم لو رُحت أتحدث عن مركزية قضية السلام في الرسالات الإلهية، ومحوريتها في توزان الكون بكل ما عليه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وكيف أن كلمة السلام تردَّدَت في الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، وفي القرآن الكريم، في عشرات المواضع من أسفار هذه الكتب وإصحاحاتها وسورها وآياتها، وكيف أن رُسل الله وأنبياءه إنما كانوا رسل سلام ومحبة ومودة، وأن رسالاتهم وشرائعهم إنما تدور على إقرار مبدأ السلام بين الناس، وكيف أن الله تعالى توعَّد الظالمين والمستكبرين بعقوبات تقشعر الأبدان من تأملها والتفكر في عواقبها، ويعلمنا التاريخ أن الحضارات التي تتخذ من القوَّة والغطرسة منهجًا وطريقًا - سرعان ما تسقط وتبيد وتصبح أثرًا بعد عين، ولا عجب في ذلك فالناس جميعًا في تعاليم الأديان- خلق الله وصنعته، بل عياله فيما يقول نبي الإسلام محمد ﷺ، "الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ" ()، وهــو -سبحانه- يغار على خلقه، ويدافع عن المؤمنين به ويدفع عنهم، وأنا أعلم أن مثل هذه العبارات لا تكاد تعني الآن شيئًا في أذهان كثيرين من الناس، وبخاصة من الشباب في الغرب وحديثًا عند البعض في الشرق أيضًا، من كثرة ما ألفوا من الغربة عن منهج الله، وآنسوا من نسيان تعاليمه، وتأثروا بسخريات الملحدين والمستهزئين بالأديان والناقمين عليها وعلى أهلها.. وأنا أعلم أيضًا أن هذه الفئة المستكبرة عن عبادة الله لا مفر من وجودها ما دام الشر موجودًا إلى جوار الخير، وما دام للشيطان جنود ودعاة للإغواء والتضليل.. ولكن يجب علينا -نحن المؤمنين بالله-والمُكَلَّفين بنشر رسالة السلام والمحبة بين الناس أن نصرَّ على مواجهة هذا الشر قدر ما نستطيع وأن نتصدَّى لخطاب الكراهية بين الناس، واستغلال الدين في نشر الرعب والعنف، ومطاردة الإرهاب، بعد أن استفحل أمره وانتشر خطره، وتطاير شررُه شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.

ومِمَّا يؤكِّد على حتمية العودة إلى فلسفة الدين وما تذخر به هذه الفلسفة من عناصر السلام والعيش الآمن والمشترك بين الناس، أن عالمنا المعاصر الذي قام على أنقاض العالم الحديث شقي كثيرًا بالبدائل التي ظن أنها ستغنيه عن الدين وتحل محله، وأسلم لها قيادة وتصوراته في الله والكون والإنسان، وأن هذه البدائل وإن تكن قد حققت في ميدان العلم والتقنية والعمران من الإيجابيات ما حققت إلَّا أنها أخفقت تمام الإخفاق في توفير عنصر الأمان والسعادة والاستقرار لدى أغلبية الأمم والشعوب، ولست بحاجة إلى أن أُذَكِّر بالحربين العالميتين في القرن الماضي، وما خلفتاه من دمار وخراب ومِن أكثر من 70 مليونًا من الضحايا في أقل من ثلاثة عقود.

وأن هاتين الحربين لم يكن للدين ولا لأخلاقياته وتعاليمه شأن بهما من قريب أو بعيد، بل كان التنكرُ للدين ونبذُه والتضييقُ عليه هو من وراء هذه الكارثة التي لا ينساها التاريخ مهما طال بها الزمن.

ولقد جرَّبت الإنسانية من الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما انتهى بها إلى إسعاد قِلَّة قليلة على حساب شقاء أغلبية كاسحة، لكن هذه الأنظمة لم تحقق الاستقرار للناس ولا التعاون بين الشعوب، والأدهى من ذلك ما يرصده بعض حكماء الغرب هنا في سويسرا من أن هذه القِلَّة التي أمسكت باقتصاد العالَم بين يديها، وسيطرت على أسواقه تعيش تحديات مُربِكَةً من "أشكال السلب الحديث وإفلاس العديد من المنشآت والبنوك وصناديق التوفير، وطرد عشرات الآلاف من العُمَّال" مما يعني -فيما ينقل اللاهوتي الكبير/ هانز كينج -عن مجلة تايم مجازين: "أن مبدأ العرض والطلب لا يؤدي بالضرورة إلى التوازن، وأن فلسفة السوق لا يمكن أن تحل محل فلسفة الأخلاق، ومن المُفْرِح –فيما يقول كينج-أن تتزايد الأصوات في الولايات المتحدة مُحذِّرة من سياسة الأنانية والانطواء على الذات، وجشع الكوادر، وسفه الاستهلاك من قِبل الأقلية الثرية".

ولنا أيها السيدات والسادة أن نتساءل: ماذا نتوقع لشعوب فقيرة ونامية من أضرار بالغة السوء حين يُجعل أمرها في أيدي سياسات عالمية، عابرة للقارات لا تعرف للألم والجوع والإرهاق معنى، ولا تفهم ماذا يعني الفقر أو المرض أو الجهل، دع عنك تصور الدماء والأشلاء واليتم والفرار في الصحراء دون غطاء ولا غذاء ولا دواء. وغير ذلك مما يصعب تصوره على المترفين الناعمين، فضلًا عن العابثين من أبراجهم العاجية بمصائر الشعوب.

السيِّدات والسَّــادة.. في هذا الإطار المملوء بالمظالم والمآسي العالمية أنظر إلى لقائي بكم، وأقدِّر أهميته، بل ضرورته القصوى في تحمل المسؤولية من أجل تخفيف معاناة البشرية، وأراهن على أهليته للتحرك الإيجابي في الاتجاه الصحيح، مع يقيني بأن النوايا الحسنة والإيمان الصادق بالله تعالى يزيل العوائق بل يزحزح الجبال. وقد جاء الأزهر المهموم بقضايا السلام إلى هذا المجلس العالمي للتباحث حول عمل أو برنامج مشترك بين حكماء المسلمين وعلماء الأزهر من جانب، وحكماء المجلس العالمي للكنائس من جانب آخر، وهذا اللقاء هو اللقاء الثالث للأزهر ومجلس الحكماء بإخوتهم المسيحيين في الغرب، فقد كان لنا لقاء في كنيسة كنتربري برئيس أساقفتها في العام الماضي، ولقاء ثان مع البابا فرنسيس بالفاتيكان في هذا العام، وأسفر اللقاءان عن دعوة الأزهر لمؤتمر دولي للسلام يعقد في أبو ظبي في بداية العام القادم إن شاء الله، وكذلك مؤتمر للسلام في مصر في منتصف العام القادم إن شاء الله، يحضره البابا فرنسيس، ويسعدني أن أُقَدِّم دعوتي لمجلس الكنائس العالمي للمشاركة بالحضور، في هذين المؤتمرين، وأتمنى أن يكون لشباب المجلس من الجنسين نصيبٌ معتبر في الوفد المشارك، فقد تركت زيارة شبابكم الناجحة التي قام بها إلى الأزهر خلال الفترة من 18-22 أغسطس 2016م، والتقائه ببعض طلابه وطالباته أثرًا عميقًا في القاهرة وفي الإعلام المصري والعربي، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي. وسعدت كثيرًا بما أبداه هؤلاء الشباب من استعداد للمشاركة -قدر المستطاع – في مشاريع السلام العالمية، وفي التبشير بخطاب المحبة بديلًا عن خطاب الكراهية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل