المحتوى الرئيسى

إيمان رفعت المحجوب: كان يغسل أسنان أمي بالفرشاة.. رغم أنها فى غيبوبة الموت

10/01 13:54

- إحنا اللى قتلنا المحجوب

كان هذا هو الهتاف الرسمى لأعضاء «الجهاد» -الجماعة الإسلامية- عام 1993، المتهمين باغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى 12 أكتوبر 1990 فى قلب القاهرة، وفى عز الظهر بإصابته بـ8 رصاصات قاتلة، وقُتل معه حارسه، وسكرتيره وسائقه ولواء شرطة تصادف وجوده بالمكان! كان صوتهم يعلو، وهم فى طريقهم للمحاكمة، التى استمرت 100 جلسة هى عمر القضية: "إحنا اللى قتلنا المحجوب، ومبارك هو المطلوب"، ورغم هذا الهتاف، وهذا الاعتراف، وهذا التفاخر بالقتل، حكمت المحكمة بالبراءة..

1- أمام إحدى العمارات على نيل الدقى فى المسافة ما بين الدقى والعجوزة فى الجزء الفاصل بين القاهرة والجيزة. توقف موكب رئيس مجلس الشعب المصرى د. رفعت المحجوب الذى جاء رئيساً له فى 23 يناير 1984. الموكب غادر الشارع.. الحرس الشخصى يسبقه  لتجهيز «الأسانسير». د. رفعت يحمل شنطة سوداء بها ملفات وأوراق خاصة، وعلى وجهه «نظارة» طبية، تحتها حزن مكتوم فى عينيه، فهو الآن داخل الأسانسير، وبعد ثوانٍ سيكون على باب حجرة زوجته وأم أولاده، التى ترقد فى غيبوبة المرض منذ عام 1985. الشغالة تفتح له باب الشقة، والحرس المصاحب له يعود من حيث أتى.

على باب شقته تنتظره طفلته الصغيرة (أميرة) عمرها 9 سنوات -حينذاك- تحاول أن تبتسم، أن تضحك، أن تفرح، لكن كيف تفرح، وهى منذ أن جاءت للحياة، والمرض يشتد على «أمها» وأحكم مرض السكر قبضته على جسدها الضعيف، ثم تحول المرض إلى حالة نزيف فى المخ، ثم تحول النزيف إلى «غيبوبة» منذ شهور، لتغيب البسمة، وتختفى الضحكة، رغم أن الأب - وهو من هو أستاذ جامعى، وسياسى، وباحث، ومفكر، ورئيس لمجلس الشعب- يحاول أن يعوضها «غيبوبة» الأم، ومرض الأم الذى طال. يبتسم د. رفعت ويقول لها: «ماما عاملة إيه النهاردة؟» تسكت الطفلة وعيونها تقول له: «إمبارح زى النهاردة.. والنهاردة زى بكره.. لا جديد»!

رأى الطفلة الصغيرة، هو رأى الجميع.. الأطباء، والأبناء، والأهل. الحالة ليس فيها أى تقدم.. نحن فى انتظار كلمة النهاية.. فى انتظار موعد الانتقال إلى ركب كريم. الكل مقتنع بذلك.. إلا شخص واحد.. هو الزوج د. رفعت المحجوب نفسه، مازال بإحساس الحبيب والزوج بداخله قناعة غريبة، بأن الغائب سيعود، وأن زوجته وتلميذته وحبيبته، وأم أولاده، وعشرة عمره.. ستعود من هناك.. من عالم «الغيبوبة» التى دخلت فيها مجبرة، لا حيلة لها فيها، ولا رأى، ولا رغبة، ولا قدرة على حتى المقاومة.

أثناء الحوار الصامت ما بين الأب والطفلة، يرن جرس البيت. آلوه.. مساء الخير يا بابا، حمد الله على سلامتك. يرد: أهلاً يا إيمان.. زوجك عامل إيه؟ وطفلتك الصغيرة. الحمد لله يا بابا. طمنى على «ماما» أنا كنت عندها الصبح. يرد: إن شاء الله بخير.. دلوقتى سأغلق معك الخط.. وأغير هدومى.. وقبل نزولى للجلسة المسائية لمجلس الشعب، سأقوم بغسل أسنانها بالفرشاة.

تسكت الابنة الكبرى إيمان.. ثم تقول: يا بابا.. لا ترهق نفسك.. أنا بس.. أصل.. عايزة أقول.. ولا تستطيع أن تكمل كلامها.. هل تقول له: أسنان إيه يا بابا.. دا ماما فى غيبوبة من شهور.. هى لا تستطيع أن تقول له ذلك.. لأنه لديه الرد الجاهز.. سيقول: أمك ستفيق من الغيبوبة.. أنا أثق فى أنها ستهزم المرض.. ثم سيقول: كيف أجعلها - بعدما تفيق من الغيبوبة- ترى أسنانها ليست مغسولة بالفرشاة، ثم يقول لنا: «أمكم يا أولاد. ليست كأى امرأة.. هذه بالنسبة لى جميلة الجميلات، وست الستات.. فكيف عندما تغيب نرى أسنانها -كما كانت- جميلة وناصعة البياض، ثم يكمل كلامه، حتى ولو كانت فى غيبوبة المرض والموت، يبدأ غسل أسنانها بالفرشاة.. حتى إن «فاقت» ستجدها كما كانت، كما تحب أن تراها.. فتسكت الابنة الكبرى ولا تكمل معه الكلام.. وقبل أن تضع سماعة الهاتف تقول له: ربنا معاها.. ومعانا.. ومعاك يا بابا!

هذا هو رد الابنة على أبيها د. رفعت المحجوب، الذي أطلق عليه الجناة وابلاً من الرصاص، مات بعده على الفور، مات وترك وراءه أبناء أربعة بينهم طفلة لم يتجاوز عمرها 9 سنوات، ومئات الدراسات وعشرات الكتب، والكثير من الطلاب الذين درس لهم الاقتصاد والسياسة والفلسفة والثقافة.. وبجوار ذلك كله ترك «فرشاة» أسنان معلقة فى مكتبه، كان يغسل بها أسنان زوجته المريضة وهى فى الغيبوبة.. حتى ماتت من قبله فى عام 1986. إنه الوفاء والحب فى صورة من صوره البليغة الرائعة!

فى سلسلة «أبى.. الذى لا يعرفه أحد»، اتصلت بالدكتور أيمن رفعت المحجوب، الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ابن د. رفعت المحجوب، نظراً لمشاغله الكثيرة، اتفقنا أن تكون معنا د. إيمان رفعت المحجوب الأخت الكبرى له تتحدث معى عن أبيها.. الإنسان، والسياسى، والمعلم، والمثقف الذى اغتالته يد الغدر، والجهل سواء بالخطأ أو بالتخطيط. اتصلت بها. حددنا الموعد.. وطلبت منها أن يكون اللقاء فى مكتبة بمنزله.. فوافق، حيث كنت أتصور أن روحه ستكون فى المكان.. وهو الذى مات مغدوراً ومظلوماً، فالأرواح الطيبة.. لا تغادر أماكنها.. وتظل تسكن فيما كانت تسكن فيه، وما توقعته وجدته، مكتبته تدل على عمق الثقافة لديه.. صورة مع الساسة مصريين وعرباً، جوائز وشهادات التقدير التى حصل عليها، ودراساته وكتبه، وفرشاة أسنان قديمة داخل علبة نصفها من الزجاج.. سألت د. إيمان ولماذا هذه الفرشاة قالت: حتى أتذكر أبى وأمى ثم تسكت وتقول: كم كان زوجاً وأباً عطوفاً ورحيماً وصديقاً وعظيماً.. اللهم ارزقهما الجنة واجمعهما معاً فى الآخرة على خير كما اجتمعا معاً فى الدنيا على خير!

قلت لها: إلى هذه الدرجة كان أباك محباً ووفياً لزوجته وعشرة عمره؟ قالت وهو تبتسم قليلاً: وكان أكثر من ذلك، العطف والحنان، والحنو، كلها كانت صفات بداخله، قلت: لكن صورته التى كان عليها أمام الرأى العام تظهره بالقوة والخشونة فى اللفظ والقول وهو على مقعد رئيس مجلس الشعب؟ ردت: يجب هنا أن نفرق بين العنف فى القول وبين الثقة فى القول، أبى كان رئيساً لمجلس الشعب فى فترة سياسية حرجة.. وفترة برلمانية غير مسبوقة فى مصر منذ ثورة 1952، كان رئيساً 84، ووقتها كان مصر أمام برلمان قوى يضم الوفد بكل قاماته السياسية وتاريخه النضالى، ويضم جماعة الإخوان بكل ما لديها من رغبة فى إثبات نفسها فى العمل السياسى المكشوف وليس العمل السرى، كما كان فى السابق، وحتى الحزب الوطنى وقتها كان فيه شخصيات سياسية قوية وبالتالى فإن هذا المجلس - فى رأيى - كان يحتاج لرئيس لديه من القوة ما يجعله قادراً على إنجاح مسيرة المجلس وقتها.

ولد الدكتور رفعت المحجوب في 23 أبريل 1926 واغتيل في 12 أكتوبر 1991، تلقى تعليمه الأولى في مدينة الزرقا في محافظة دمياط، ثم حصل على ليسانس الحقوق جامعة القاهرة عام 1948، والدراسات العليا في القانون العام من جامعة باريس بفرنسا عام 1950 ثم دراسات في الاقتصاد والعلوم السياسية ثم دكتوراه في الاقتصاد من باريس عام 1953 ثم عاد إلى مصر بعد ثورة 1952، وتدرج في وظائف الجامعة حتى أصبح عميداً لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1971، في عام 1972 اختاره السادات في منصب وزير برئاسة الجمهورية ثم أمينا للاتحاد الاشتراكي العربي عام 1975.. وفي 23 يناير 1984 تولى رئاسة مجلس الشعب حتى اغتياله، له من الأبناء أربعة.

عدت للدكتورة إيمان وسألتها عن حياته الأسرية.. كيف كانت؟ ردت: أبي تزوج والدتي، وهى مازالت طالبة تدرس الحقوق، فبعد عودته من البعثة، كانت تجلس أمامه في المحاضرة، وتعرف عليها وتزوج، وأنهت دراستها وهى زوجة، ثم اشتغلت بعض الوقت في المحاماة، قلت: هل كانت مريضة أو مرضت بعد فترة من الزواج؟ قالت: لم يكن عندها إلا مرض السكر، الذي فيما يبدو زاد عندها بعد حملها بشقيقتي الصغرى (أميرة)، ثم دخلت في غيبوبة الموت، وبعدها ماتت، والغيبوبة المرضية بدأت معها في ليلة زفاف أخي د. أيمن. قلت: كيف؟

قالت: ليلة زفافه كانت سعيدة جداً، فهو ابنها الوحيد وكان سيسافر للخارج لإنهاء دراسته، ويومها بذلت مجهوداً جباراً، بعدها لم تعد كما كانت.. سافر أخي وغابت هى عن الوعي حتى الرحيل.

«باختصار ستكون ما تريد أن تكون، لا شىء غيره، أنت من تختار سلوكك، فالحياة كلها اختيارات، حتى الإحجام عن الاختيار هو - في حد ذاته - اختيار».. كانت هذه فلسفة د. رفعت في تعليم أولاده.. هذا ما أشارت إليه الابنة ثم قالت: كان رغم كل مشاغله يذاكر لنا دروسنا ويقرأ لنا القصص، ويحكي لنا الحواديت، ويذهب بنا إلى المدرسة في الصباح، أما في المنزل.. فكانت حياته عبارة عن القراءة.. البيت كان عبارة عن مكتبة كبيرة، وهو من علمنا أن الإنسان يصنع المعرفة، وتحميه مهنته، ومستقبله يحدده اختياره، لذلك هو لم يختر لنا أي شيء.. فقط علمنا، وقف بجوارنا، بالرأي والقول ثم ترك لنا الاختيار.

سألت الدكتورة إيمان وقلت لها: كيف سمعت نبأ اغتياله؟ قالت: قبل عملية الاغتيال بأسبوع كان قد سافر إلى دمياط في مهمة عمل أذكر أنها لها علاقة بمجلس الشعب وقتها، وعاد من هناك يوم الخميس، اليوم السابق لاغتياله، وعندما عاد للقاهرة اتصل بي وبأختي الكبرى، وقال لنا إنه اتصل بـ «عمتي» أيضاً، وأنه سينتظرنا على الغداء يوم الجمعة، الجمعة التي اغتيل فيها؟ نعم.. ثم أكملت: قلت له إن شاء الله بكره بعد الصلاة سنكون عندكم. وفي صباح يوم الجمعة رن جرس الهاتف في منزلي.. ووجدت أصدقاء يسألونني عنه وأين هو؟ وعندما شعروا أنني لا عرف شيئاً.. لم يخبروني بما حدث له.

قلت: إذن الحادث كان قد وقع؟ ردت وهى متأثرة وتنظر لصورة له فوق كرسي مكتبه: نعم.. كان الحادث قد وقع.. بعد قليل عاد التليفون إلى الرنين.. لكن هذه المرة رد زوجي.. وعرف بالخبر قبلي، ثم قال محاولاً امتصاص الصدمة.. يبدو أن عمي حدث له شىء ما.. وتحركنا بسرعة إلى بيته على نيل القاهرة.. وفي الطريق كنت علمت بالخبر المأساوي والمؤلم والكارثي الذي أحل بي.. ثم تصمت د. ايمان قليلاً.. في محاولة منها لمجابهة «دمعة» تضغط عليها لتسقط على أوراقنا التي أمامنا.. نجحت في المحاولة.. وأكملت كلامها قائلة: لحظات لا أنساها.. الحزن وقتها لا معنى له.. البكاء وقتها لم يكن يكفيني.. الصراخ إذا صرخت كان يزلزل الأرض من حولي.. لماذا فعلوا ذلك؟ ماذا صنع غير أنه عاش وتعلم وعلم وجاهد واجتهد.. وسهر وسافر من أجل البلد، من هؤلاء؟ ولماذا صنعوا به وبنا ذلك؟ أسئلة كثيرة دارت في ذهني ورددها لساني بالصمت أحياناً، وبالجهر أحياناً.. سألت ومازلت أسأل.. من قتل أبي؟ ولماذا قتلوه؟ وبأي منطق؟ وبأي فكر؟ وبأي منهج؟ قلت لها.. بعد أن هدأت بعض الشىء: قيل إنه تم اغتياله بالخطأ وأن الجماعة الإسلامية كانت تخطط لقتل وزير الداخلية وقتها اللواء عبدالحليم موسى، فتصادف مرور موكبه هو، قالت: نعم قيل هذا الكلام، قلت: وقيل إن هناك شخصيات عربية خاصة من العراق أو إيران - هكذا جاء رسم الرسامين لملامح الجناة طبقاً لرأي الشهود مكان الحادث - فهل تتفقين مع هذا الرأي.. قالت وهي منفعلة إلى حد ما: أنا لست جهة تحقيق، ثم إن القضاء برأ المتهمين.. صحيح القاضي الجليل قال للمتهمين في نهاية الحكم: «إن كنتم فعلتموها فحسابكم على الله» وأنا من هذه الجملة.. أقول: «نعم.. حسابهم على الله».

«إن المحجوب كان رجل دولة، واغتيل لذلك، فقد كان يلقي في كلمته كل تصورات مجلس الشعب بما يفرض على الحكومة أن تتبعه، وكان يعي أنه يساهم في صنع دولة». كان هذا رأي النائب والسياسي الراحل أبو العز الحريري.. فالرجل كان بحق رجل دولة من الطراز الرفيع.. جده وفدي وأبوه وفدي.. وهو تربى في شبابه على ثوابت الوفد، وبالتالي تعلم و«شرب السياسة» من منابعها الأصلية، عدت للابنة وقلت لها: كيف كانت علاقته بالأهل والأصدقاء والزملاء؟ قالت: علاقة أب مع الجميع، لا يرفض لأحد طلباً، ويحاول أن يساعد أي طالب قدر ما يستطيع، ثم قالت: وكان له رأيه الصارم والقاطع في عدم التفريط في بيع القطاع العام، ومجانية التعليم وكان يرفض الجامعات الخاصة، وكان يطلب فقط إعادة هيكلة القطاع الخاص وتطويره.. لأنه كان يرى أن هذا هو عصب الدولة.. أما على المستوى القومي، فقد كان يرى أن قوة الأمة العربية في وحدتها، وفي 23/8/1990 كتب في مذكراته ما يلي: «مع أذان فجر الخميس الثاني من أغسطس 1990 اجتاحت الجيوش العراقية الكويت وأخذت تدمر وتحرق وتنهب وتغتصب، فأعادت للأذهان ما فعله التتار ببغداد»، كان هذا موقفه من مستقبل الأمة العربية.. وموقفه من غزو الكويت. عدت من الكويت والعراق ومسرح الأمة العربية السياسى إلى نيل القاهرة.. حيث مسكن الدكتور رفعت المحجوب.. وسألت الدكتورة إيمان: شقيقتك الكبرى (د. أمينة) كانت فى بيتها.. والدكتور أيمن كان فى بعثته.. إذن لم يبق فى المنزل بعد وفاة الأم واغتيال الأب إلا الطفلة (أميرة)؟ قالت: أقول لك ما قلته وكتبته من قبل. قلت: تفضلى. قالت: سقطت الطفلة مغشياً عليها لتفيق بعد ساعات يوم اغتياله، وقد أصبحت لطيمة بلا أم ولا أب ولا بيت. رحل الأهل وذهب الزوار وأغلق البيت الذى كان عامراً بالأمس. ولم يبق إلا الذكريات.

قلت: هل استضفتوها لديكم؟ قالت: بيوتنا كلها لها.. بل إننى رأيت مصر كلها تريد أن تحتضنها. نعم أهلاً وسهلاً بها فى عيوننا وقلوبنا.. وبيوتنا وقتها.. لكن كانت تسألنى كل صباح بعد رحيله: هل ستحبوننى كما أحبنى؟ هل تعتقدون أن هناك حضناً فى العالم يغنينى عن حضنه؟ كانت تسأل.. ونحن نبكى!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل