المحتوى الرئيسى

نحن وبالوعة التاريخ

09/30 22:09

حيث إننى فقدت الأمل فى المشهد السياسى الشعبى، حيث الهبد والرزع الدائرين لا يدشنان أحزاباً أو يشيدان كيانات سياسية قادرة على اجتذاب الجماهير، وحيث الهرى والهرى الآخر والهرى الطفيلى المفتئت على هذا وذاك لا تصلح الأحوال أو تبنى الأوطان، فقد بات من الواضح تماماً أن كلمة السر لفت ودارت وصالت وجالت وعادت من حيث بدأت فى نقطة البداية وهى البشر، هذا البشر وقوامه ما يزيد على 90 مليون مواطن ومواطنة جرى لهم ما جرى، وأصابهم ما أصابهم حتى تحول سؤال الرائع جلال أمين شعاراً استنكارياً فى زمن أغبر، ماذا حدث للمصريين؟ ولن تستوى الأمور أو تتحسن الظروف إلا إذا سلمنا بقاعدتين، الأولى هى أننا فى حاجة ماسة وسريعة وعاجلة إلى إصلاح جذرى، والثانية هى أن التديين الذى ضربنا لم يكن يوماً علاجاً بل كان مسكناً ومخدراً، أربعة مشاهد استوقفتنى خلال الأسبوع الماضى وضعت العنصر البشرى وما حدث للمصريين تحت المجهر الجراحى، الأول صورة فوتوغرافية مصاحبة لخبر فى مناسبة بدء العام الدراسى، وتوضح الصورة جمهرة لأولياء أمور مدرسة حكومية فى داخل فناء المدرسة، وفى الشرفة العلوية يجرى الأطفال فى صراع يبدو أنه محموم للدخول إلى الفصل، بينما أب «ملتح» يساعد صغيره على تسلق ماسورة ضخمة للحاق برفاقه فى الشرفة، ويتضح من محتوى الخبر أن السباق المحموم، الذى وصل إلى درجة قيام الأب الورع بمساعدة فلذة كبده على تسلق الماسورة من أجل أن يحظى «أحباب الله» بالمقاعد الأمامية فى الفصل، ما الذى يجعل أولياء الأمور يدخلون فناء المدرسة من الأصل؟ وأين دور الناظر والمشرفين والمعلمين؟ ثانياً كنت أظن أن محاولة صغير تسلق المواسير تستوجب شجباً من الأهل وتنديداً من المعلمين بأن مثل هذا التصرف جدير بالحرامية، لكن أن يتسلقوا المواسير بدعم ومساعدة الأهل وفى غياب المسئولين عن المدرسة فهذا تطور كبير وتصرف عجيب، ثالثاً حين يكون الأب المساعد على هذا التصرف ملتحياً، فإن هذا يجدد السؤال حول كيف تدين المصريون؟ وما محتوى هذا التدين الشكلى الذى بدت عبثيته جلية فى الصورة الفوتوغرافية الفريدة؟ المشهد الثانى قد بدت معالمه القبيحة واضحة فى رحلة القطار من القاهرة إلى الإسكندرية عبر الطريق «الزراعى» سابقاً «الخرسانى الفوضوى العشوائى» حالياً، حيث بيوت صغيرة قبيحة يجرى بناؤها بسرعة البرق على الحقول لعل البناء ينتهى ويصبح أمراً واقعاً قبل وصول أعين «الحكومة» وأذرع القانون الضاربة، ويبدو أن الأعين تأخر وصولها كثيراً والأذرع شُلت أطرافها طويلاً، إذ إن نسب التعدى كبيرة وألوان الطوب الأحمر والخرسانة الرمادية غلبت الأخضر بدرجاته، أسئلة كثيرة تطرح نفسها حول غيبوبة القانون العائدة ببطء هذه الآونة، وموت ضمائر أولئك البانين الذين لا يرون سوى منفعة آنية فى شقق خرسانية مقامة على أرض مصر الزراعية المحدودة التى هى ملك الأجيال المقبلة، الأجيال المقبلة التى حتماً ستلقى حتفها -إن لم يكن اليوم فغداً- وذلك فى أماكن شتى بنى فيها المخالفون فى غفلة من القانون الذى يعانى غيبوبة غير مسبوقة لا تعتريهم مشاعر خوف أو رعب لدى رؤية الأبراج السكنية القبيحة التى بنيت متلاصقة على شاطئ بحر أبوقير، (والمقصود بالشاطئ هنا هو الشريط الرملى الذى يفترض أن يفصل بين البحر والشارع) عشرات وربما مئات من الأبراج السكنية المرعبة تطل بوجهها القبيح وكأنها تنذر بموت قريب للقاطنين الحاليين والمستقبليين، الصغار فى المنطقة ينظرون إلى تلك العمارات بعين ملؤها الرغبة والتمنى، يحلمون بأن ينتقلوا للعيش فى إحدى هذه البنايات العزرائيلية، ولم لا؟ فقد وُلدوا فى زمن أصبح فيه القبح هو الشائع، والغلط هو الناجع، والمخالف هو المنتصر، وبالطبع، لا تخلو عمارة من عمارات الموت من عبارة أو اثنتين بغرض التبرك وطلباً لرضا السماء «الملك لله وحده» «بسم الله ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله»، المشهد الثالث بطله شاب مصرى تبدو عليه علامات العنجهية والتيه، مع إصراره على ارتداء النظارة الشمسية فى داخل القطار ذى الإضاءة الخافتة وسماعة الأذن التى لا تفارق أذنيه والجل الغزير المسبسب به شعره المتجعد، ينشب خلاف بينه وبين ناظر القطار الذى ظل يتحدث إليه بصوت هادئ مقنعاً إياه بسعر التذكرة غير القابل للتفاوض، فجأة انتفض الشاب، وقال له بصوت جهورى إنه لا يسمح له أن يهدده، وإنه أجنبى محذراً إياه بأنه يحمل جواز سفر أمريكياً وأنه سيتصل بالسفارة، وظل الشاب يكرر كلمة «أنا أمريكى» كثيراً فى الخناقة الكلامية التى تدخل فيها ركاب القطار وانتهت بضلوع فرد من شرطة السياحة حسم الخناقة لصالح الناظر. المشهد -غير المأخوذ من فيلم «عسل أسود»- عكس عواراً شبابياً واضحاً فى الشخصية والتصرف والوطنية، والمشهد الرابع وهو مستمر متوغل متوحش هو المشهد المرورى، حيث القوانين ماتت وشبعت موتاً، ولا يمضى يوم دون بعض أخبار عن قتلى الأسفلت والسبب واحد يكاد يكون لا ثانى له، العنصر البشرى: سير عكس الاتجاه، قيادة جنونية، تخطى غير محسوب، وغيرها من علامات جنون البشر فى زمن غيبوبة إدارة المرور وشيوع السيوف والعبارات الدينية على زجاج السيارات الخلفى، هذه المشاهد وغيرها كثير كفيلة بالإبقاء على دول فى بالوعات التاريخ حتى لو كانت متمسكة بتلابيب المظاهر الدينية، فهل من عاقلين راشدين قادرين على انتشال أنفسهم وبلادهم مما نحن فيه؟!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل