المحتوى الرئيسى

في ذكرى مولده: مشهد وداع الرومي يحكي عن فلسفته

09/30 13:24

كان زحام اضطر معه العسس إلى استخدام السيوف والهراوات، كان القوم من كل صنف ومن كل صوب، والقساوسة يقرأون الإنجيل، ودقت المزاهر والنقارات، وعزفت المزامير والنايات وآلات الرباب. ومع الغروب وصلت الجثة إلى الجبانة بعد رحلة بدأت منذ الفجر، ووضعت على حجر. استدعي صدر الدين القونوي لصلاة الجنازة، فغاب عن الوعي ثم أفاق وأدى واجبه، وعندما وري الجثمان التراب بمشاركة أشخاص من أجناس وملل وأديان مختلفة، كان الحاخامات يقرأون التوراة وكانت الشمس تغرب والأفق مخضباً بالدم.

هنا توقفت الزلازل التي كانت مدينة قونية تتألم منها خلال الأيام الأخيرة، وكأن الأرض قد شبعت بعدما التقمت اللقمة الدسمة التي كانت تحلم بها. انتهت حياة مولانا جلال الدين محمد بن محمد بهاء الدين الخطيبي البكري، ومن بعده مات قطّه الأليف حزناً عليه، بعد أن امتنع عن الطعام والشراب أسبوعاً بعد وفاته، فكفنته ملكة خاتون ابنة مولانا ودفنته إلى جوار قبر والدها.

هكذا حكى عبدالجليل كولبنارلي في كتابه "مولانا جلال الدين"، عن يوم وفاة جلال الدين الرومي.

المقدمة قد تبدو غير مناسبة لعرضها في ذكرى ميلاد الرومي، الذي كان في 30 سبتمبر 1207؛ إذ كيف نحكي عن ذكرى الموت ونحن نتحدث عن الميلاد. لكن الرومي قال في سفره الأعظم "مثنوي" بأنه يكتب للقرون التالية له، ولذلك كان مشهد إيداع جثمانه القبر هو البداية لانتشار حكمته ولإشعاع نوره إلى العالم... ومن أشعاره:

وعندما ترى نعشي لا تصرخ: الفراق     فوصالي هو في هذا الزمان ولقائي  

وحين أودع القبر لا تقل الوداع الوداع     فالقبر هو حجاب على مجمع الجنان

لا تبحث عن ضريحنا في الأرض بعد وفاتنا      فضريحنا قلوب العارفين

صدقت نبوءة الرومي، إذ يعتبر اليوم من أكثر الشعراء والفلاسفة تأثيراً بعد 8 قرون على رحيله. وصفته Bbc  عام 2007 بأكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة، وغنى له نجوم موسيقى البوب هناك بمن فيهم مادونا. وتجد من ينسجون أكثر الروايات شعبية في العالم على أثر حكمته، ومنها رواية إليف شافاق "قواعد العشق الأربعون".

كذلك تحول فكر الرومي إلى مؤسسة عقب وفاته، وهي الطريقة المولوية، التي أسسها في قونية، لتنتشر بعد ذلك في العالم الإسلامي، وبالأخص في تركيا والشام ومصر.

مشهد الوداع يوضح جزءاً كبيراً من فلسفة الرومي؛ فوداع الميت ألم، ومع ذلك وجدناه مع الرومي مشهداً احتفالياً، به الموسيقى والإنشاد، لأن أتباعه يرون أن تلك الليلة هي عرسه، ولا يزالون يحتفلون بها إلى الآن. يبدو أنهم تأثروا بأقواله: "لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟"، "هذه الآلام التي تشعر بها إنما هي رسل. فاستمع لهم"، "داوم على كسر قلبك حتى تفتحه"... هكذا كان للألم وقع خاص عند الرومي وتلاميذه، إذ يرونه وسيلة لتسلل نور الحقيقة إلى أعماقهم؛ فالألم الذي أصاب الرومي حين فقد رفيقه الصوفي، شمس الدين التبريزي، تحول إلى طاقة حب... فنجده يقول في كتابه "غزل":

من الذي قال "مات ذلك الخالد أبدا"؟

من الذي قال: ماتت شمس الأمل

إنه عدو للشمس صعد إلى السطح

وأغمض عينيه وقال: ماتت الشمس

ليست تراباً هذه الأرض     إنها طست من دم

من دماء العاشقين     وجراح موت العظام

شارك غردعن أكثر الشعراء والفلاسفة تأثيراً بعد 8 قرون على رحيله، غنى له نجوم البوب حول العالم، ونسجت أكثر الروايات شعبية على أثر حكمته

شارك غردصدقت نبوءة الرومي عندما قال "لا تبحث عن ضريحنا في الأرض بعد وفاتنا... فضريحنا قلوب العارفين"

كان التبريزي المسؤول عن تحوّل الرومي من فقيه حنفي يدرس العلم الشرعي في قونية إلى متصوف شاعر ينطق بالحكمة. ونقل الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، أستاذ الدراسات الشرقية، في مقدمته لكتاب "مثنوي" للرومي، أن التبريزي كان ثائراً صادماً لمن حوله بأفكاره، ولا يجد من يتحمل روحه قبل عقله، وأوحى الله إليه أن يذهب إلى أرض الروم "تركيا، أو دولة سلاجقة الروم" لأن فيها من سيتحمله ويشرب من روحه، فذهب وتقابل مع الرومي الذي فهمه من أول وهلة، فَهِم تلك القوة الروحية الهائلة التي لا يظهر منها سوى تعبيرات عميقة تجرح أحياناً، فهِم أقوالاً يسميها الصوفيون شطحيات لو أخذت على ظاهرها لما فسرت إلا بمعنى الكفر.

وبعد لقاء درامي بينهما تصادقا حتى صارا روحاً واحدة في جسدين، فشرب الرومي من روح التبريزي، بعد أن دارت بينهما حوارات في كل شيء، عن الكون وأسراره وعلاقة الخالق بالمخلوق وغيرها، حسبما يخبرنا أحمد الأفلاكي في كتابه "مناقب العارفين في أخبار جلال الدين الرومي". وحين قُتل التبريزي حزن عليه الرومي حزناً لم يحزنه أبداً في حياته، لكن ذلك حوله من شيخ الإسلام الفقيه إلى الفيلسوف المتصوف الشاعر، فألف بلغته الفارسية "ديوان شمس التبريزي"، "الرباعيات"، "غزل"، وسفره الأعظم "مثنوي" المكون من 6 مجلدات، والذي قال عنه: إنه أصل أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر. وإن الأبرار فيه يأكلون ويشربون، والأحرار فيه يمرحون ويطربون، وهو كنيل مصر شراب للصابرين، وحسرة على آل فرعون والكافرين.

الموسيقى التي كانت تعزف في وداع الرومي، هي ركن ركين في فلسفته. يقول مولانا: "وما الموسيقى إلا أزيز أبواب الجنة". والموسيقى هي أساس لرقصة المولوية، التي عليها تقام طقوس الذكر الصوفي عند الرومي. ويوضح مدرّب طقوس المولويّة السوري، عمر الطيّان العقّاد، معاني ورموز الأزياء والحركات المولوية في قوله: الدائر يضع على رأسه اللبادة (السكّة) وتمثل شاهدة قبر النفس الأمّارة، والتنورة البيضاء تمثل كفنها وعندما يخلع جبته السوداء يكون قد بعث وولد في عالم الحقيقة، فيبدأ الدائر سيره وسلوكه الروحاني ويتقدم فيه. وفي بداية السماع يضع ذراعيه على جسمه بشكل متعارض وبذلك يشهد الدائر بوحدانيّة الله عزّ وجل ويمثل الرقم (1)، ولدى مباشرته حركة الدوران يفتح ذراعيه متضرعاً لله وتكون يده اليمنى متوجهة نحو السماء (الأعلى) مستعداً لتلقي الكرم الإلهي، ويده اليسرى التي ينظر إليها متوجهة نحو الأرض ليعطي الناس ما يتلقاه من إحسان الله عزّ وجل، ثم يفتح ذراعيه وكأنه يحتضن المخلوقات جميعاً.

ويعتبِر الرومي أن الرقص هو قمة التصوف، أي قمة الفناء في المعشوق والتوحد معه، وقال "إن العشق جعل جسم الأرض يعلو على الأفلاك، فرَقص الجبل وأضحى خفيف الحركة". وقال أيضاً: "أنت ترقص أنت في قلب الإله". كذلك يقول: "انظر بقلبك، وستعرف أن كل ذرات الكون في رقصة عشق أبدية... ستعرف أنها تتلمس العاشقين فتعرفهم".

ضمن المشاهد التي عبرت عن فلسفة الرومي يوم وداعه، حضور اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم. جميعهم حملوا جثمانه وجميعهم ودعوه. الرومي يقول:

مسلمٌ أنا ولكني نصرانيٌ     وبرهميٌّ وزرادشتيٌّ

ليس لي سوى مَعْبدٍ واحدٍ     مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام

ووجهك الكريم فيه غايةُ نعمتي!     فلا تنأ عني... لا تنأ عني

أبيات هي تعبير عن مبدأ وحدة الديانات، الذي آمن به الرومي، لأنه باختصار يؤمن بدين الحب، ويرى الله في كل مخلوقاته، يقول:

لقد تخلَّيتُ عن الثنوية، إذ رأيتُ العالمين عالماً واحداً

واحداً فحسب هو من أبحثُ عنه

واحدًا فقط هو من عرفتُه

واحدًا فقط هو من أراه

واحداً فقط هو من أناجيه  

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل