المحتوى الرئيسى

علي السقا: انكسارات مدينة

09/29 01:13

لعلنا لا نجانب الصواب اذا زعمنا أن باريس قد «خلقت» روائيا مع بالزاك، ولندن مع ديكنز، ومدريد مع غالدوس. لكن هذا الخلق، اذا استندنا الى الأحياء، والساحات، والاسواق التي تدور فيها حيوات أبطال هؤلاء الكتاب لا يشير الى المدينة الا باعتبارها ديكورا جاهزا وقالبا مكانيا سلبيا للأحداث، لا بكونها بطلا خاصا أو مؤثرا فاعلا في الرواية. اختلف التصور الروائي المكاني للمدينة بعد منتصف القرن العشرين، حين ظهر روائيون مثل جويس في «عوليس»، وألفرد دوبلن في «برلين ميدان الاسكندر»، وأورهان باموق في «الكتاب الأسود» ليحولوا المدن مثل دبلن، برلين واسطنبول وغيرها الى أبطال حقيقيين للرواية بحيث تتحول الطوبوغرافيا (Topographie) الى تيبوغرافيا (Typographie أي القراءة الخصبة للمكان الذي يتحرك (Espace en Mouvement).

نحن اذن امام مقاربتين للمشهد المديني: مقاربة بواسطة الحاضر الأبدي، او بمعنى آخر المدينة - المتحف، ومقاربة ثانية تأخد بعين الأعتبار الآلة العظيمة للزمن في الهدم والبناء، في تطوره الصاخب او الهادئ أو كليهما معا. المقاربة الأولى (المدينة - المتحف) قد تنطبق على باريس أو البندقية، تلك المدن التي يخيل الينا أن بناءها واكتمالها قد تمّا لمرة واحدة والى الأبد، بحيث أن أي تغيير عمراني ولو كان طفيفا، يتمّ على حساب هذه المدن بجمالها وتمامها. المقاربة الثانية، التي تلحظ التحولات العظيمة التي يمكن لمدينة أن تخضع لها مكرهة بفعل البشر والزمن هي التي يعتمدها علي السقا، في روايته الأولى «حي السريان» (*) الذي يمثل رمزيا كل الاحياء الفقيرة التي تتصل بوسط بيروت التجاري، والتي عصفت بها الحرب الأهلية ليتم استثناؤها من مرحلة البناء وإعادة الإعمار لمصلحة هذا الوسط الذي يسميه الكاتب بـ «الجنة الشاغرة»، و «أهلها الذين يبتغون الفرح الذي يأتيهم على أجنحة». يأخذنا الروائي الشاب من أيدينا الى ذلك الحي القديم من بيروت، بأبنيته التي تعود الى الفترة العثمانية ومرحلة الانتداب الفرنسي، وتسميته المتأتية من وجود كنيسة للسريان فيه، واختلاط المكونات الأهلية الموجودة فيه مع بعضها البعض، وحتى مع الوسط التجاري نفسه قبل الحرب، بحيث لم يكن برادوكس الإعمار- التهميش قد ظهر بعد: من على شباك رضية، الشخصية التي تأخذ نصف مساحة السرد في الرواية ، نطل مع السقا على المدينة في انكساراتها، وفي تشظيها الى حدّ الشيزوفرينيا، ما يجعل ممن يعيشون خلف النافذة غرباء تماما عن اولئك الذين يسهرون أو يعيشون الى حيث تطل.

رضية بطلة الرواية الستينية، تبدأ من انكساراتها الشخصية: مخاوفها البيولوجية والنفسية وحاجتها الفطرية الدائمة للحماية من أختها منذ الطفولة، الى زواجها القسري من خليجي عاجز جنسيا وعودتها الى حي السريان، الى فقدانها للنموذجين اللذين شكلا نقاطا للضوء في حياتها: اخوها اليساري المثقف،الذي يتخذ قرارا محزنا بالانسحاب والهجرة، وأمجد، الفدائي الفلسطيني الذي نذر نفسه للقضية ولرضية قضيته الثانية، في قصة حب لم تكتمل لمقتل أمجد في الدامور بعد اختطافه من قبل الميليشيات اليمينية.

تروي رضية سيرتها وسيرة حي السريان لكأن الانكسارات التي تطبع المراحل الاولى من حياة الانسان تتسع كالفسوخ في الجدران لترافقه الى الأبد. يرسم السقا الشخصيات بدقة حول رضية، من ابنها علي الذي يرتكب جنحة تحيله الى الاصلاحية، حيث يلتقي بصافي النصولي، البيروتي من حي التنك، الذي خبر الحياة والاصلاحية وواقع الفساد والقسوة الذي ينخر منظومة التأديب والإصلاح بأكملها من رأس الهرم (الضابط شكور الذي يتقاضى الاموال من نزلاء الاصلاحية مقابل السماح لهم ببيع المخدرات)، الى الفتوات والعصابات خلف جدران الاصلاحية المسورة وصولا الى زيف ودجل جمعيات المجتمع المدني التي تتعاطى مع السجون. يطرح السقا في روايته ثنائية اخرى في غاية الأهمية: المقاوم المقاول والمقاوم النظيف. يتمثل الاول بالحاج اسماعيل، المقاوم السابق، الذي يفرض الاتاوات على المراقص القريبة في الجنة الشاغرة بحجة حمايتها من الجياع الموجودين في حي السريان والاحياء المجاورة، حين «فرش اهل الجنة رغد العيش أمام أعينهم مثل بساط، ثم قالوا لهم لا حصة لكم في هذا الرغد». ويشارك منظومة الاعمار الجديدة عسفها في طرد السكان من البنايات المتاخمة للجنة الشاغرة، متسلحا بمنظومة ميليشوية لا يلبث علي أن ينضوي ضمنها مع صديقه «الدادو»، الذي ينظٌر لفلسفة القسوة والرضوخ هو الآخر على طريقته (ما الضير في أن تكون كلب رجل قوي؟. كلب السيد سيد يا علي»).

النموذج «النظيف» الذي يطرحه السقا هو الشيخ زيد، رجل الدين المتنور الذي يرفض ان يرتدي العمامة، ليعبئ المقاومين ويجهزهم لقتال المحتل، والذي «يتملكه القهر من رؤية أهله مسحوقين يمشون برؤوس منحنية وعيون فارغة تنظر الى البعيد ولا تمسكه، تخلصنا من ظلم اليهود ولم نعرف كيف نرد ظلم أهلنا عنا. سآتي عندما يأذن لي الله ونرفع كل هذا الظلم». ورغم نبوءة الخراب الذي يبوح بها الجنرال المتقاعد الذي يتشبث ببيته ضد اسنان الجرافات حتى الرمق الأخير بوصول هذه الجرافات الى بيوت الزعران الفقراء أنفسهم، لا تخلو رواية حي السريان من بارقة للأمل تتمثل في انضمام علي في نهايتها الى الحراك والتظاهرات في وسط البلد، وهذه الدعوة الخجولة على لسان الشيخ زيد للمقاومة بالانتقال الى حالة المحاسبة والمبتدرة في برنامج اجتماعي قائم على العدالة ورفع الظلم.

بلغة لا تخلو من الشعرية وبكثير من البساطة لكون ابطالها بمعظمهم من حي شعبي رواية علي السقا هي تلك المعركة المستمرة بين بأولئك «الذين يصيبون الأرض بالوباء» بأبراجهم وجرافاتهم وفسادهم المنقطع النظير، واولئك الذين «يفلحون أشبارهم الأربعة من الأرض» بحسب الشاعر الاسباني انطونيو ماتشادو، «أناس طيبون، يحيون ويعملون، يمضون ويحلمون»، وفي يوم شبيه بالأيام الأخرى، يرتاحون مع ذاكرتهم وانكساراتهم كما ذاكرة مدينتهم وانكساراتها تحت الثرى.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل