المحتوى الرئيسى

ليلة بـ "ألف ليلة" على مسرح مصر "القومي"

09/28 22:22

التجارب الصادقة الجادة تعرف طريقها للنجاح، وتصل إلى الناس من أقصر الطرق، ومكانها في محجوز في صفحات التاريخ. في مصر الآن ـ نعم الآن ـ تجربة من هذا النوع، تتجلى على خشبة المسرح القومي يوميا، منذ أكثر من عام، هى مسرحية "ليلة من ألف ليلة". ولأنها تجربة مخلصة بحق، فهي ليست بحاجة لماكينة "بروباجندا" لتسويقها، ولا ميزانية ضخمة للدعاية والإعلان. ورغم أنها مسرحية من التراث، سبق عرضها لمرات حتى 1994، لكنها لاقت في قالبها الجديد، إقبالا جماهيريا غير مسبوق، وإيرادات تاريخية للمسرح العريق. حصيلة الشهر الأول تخطت حاجز "المليون جنيه". دلالة الرقم كانت كفيلة بطمأنة النجم يحيى الفخراني على مستقبل الفن وتذوق جيل الشباب والأجيال القادمة للفن الجيد. المسرحية، مُبهرة فنيا، نصا وتمثيلا وإخراجا. وعودة "الفخراني" للمسرح لافتة للانتباه. يحكي عن ذلك موقفا جمعه بنور الشريف أثناء تكريمهما في افتتاح المسرح القومي بعد ترميمه، يقول "جالى مس وأنا قاعد في المسرح القومي، فهمست في أذن نور بأني أشعر بقرب عودتي للمسرح ثانية". "ليلة من ألف ليلة" أيضا عودة قوية للمسرح الغنائي، وإحياء لواحدة من أهم كنوز التراث المسرحي، بنص الرائع بيرم التونسي. الأهم هو تأمل "المنظومة" التي وفرت مقومات النجاح، وقدمت نموذجا لـ"حلم قابل للتحقيق"، في مرحلة تردي وانحطاط فني وأخلاقي مفزع. "التحدي" هو أول كلمة سر في تجربة "ألف ليلة"، يليه الاصرار على النجاح، كمفتاح أساسي للأداء المسرحي الاحترافي. هذا ما يفسر به الفنان يوسف اسماعيل مدير المسرح القومي، نجاح العرض، ويروي في مقابلة تلفزيونية له تفاصيل صغيرة مؤثرة، شكلت أهم عوامل النجاح. يقول إن "الفخراني" لم يتغيب عن بروفة واحدة والفنانة نعيمة عجمي مصممة الأزياء صنعتها يدويا، وحاكتها بأناملها غرزة غرزة، فجاءت معبرة عن طابع سنوات الخلافة الاسلامية في بغداد، والديكور، ابتكره المهندس محمد الغرباوي، بأقل التكاليف، ورغم مرضه حرص المخرج محسن حلمي على حضور البروفات النهائية، أضف لذلك مخزون الطاقة الايجابية المتجدد لدى لطفى لبيب، الذي عوّض قصر دوره في المسرحية، بمساحة أكبر في الكواليس، يحتوى الممثلين ويحل مشاكلهم ويمنحهم من خبرته وإنسانيته ما يجعل أداءهم متميزا. النتيجة أن محصلة مشاكل وشكاوى "الخشبة" إلى إدارة المسرح تساوي "صفر"، ومحصلة شباك التذاكر "كومبليت لمدة شهر قادم". يتحدث "اسماعيل" عن كل هذه التفاصيل بفخر، فهو المشرف على منظومة العمل بالمسرح القومي منذ توليه إدارته قبل شهور، وصاحب نصيب مستحق في كل نجاح للمسرح القومي وعروضه. وهو فنان وإداري، لديه بالتأكيد، ما يضيفه للمسرح والثقافة المصرية عموما. في إحدى ليالي صيف 2016، ذهبت لمشاهدة المسرحية، قبل أن يفوتني عرضها الاستثنائي. حضرت مشحونا بطاقة دفع ذاتي، مصدرها الصيت الواسع للمسرحية منذ عرضها الأول في افتتاح المسرح القومي العام الماضي. أى سحر هذا الذي يلفك، كل مرة، وأنت تنتقل بين أروقة المسرح المهيب. شموخ بنايته، وزهو إضاءته وعراقة خشبته التي وقف عليها عمالقة الفن، تأخذك إلى زمن آخر، كان فيه "مسرح مصر" أبو الفنون، بالفعل. خلال الثواني التي يُرفع فيها الستار لم يتوقف التصفيق. يظهر "الفخراني" بثياب "الشحاذ"، تصحبه ابنته "نجف" التي تؤديها هبه مجدي، مع راقصين يؤدون الاستعراض الأول، على إيقاع كلمات الرائع بيرم التونسي: إلهي ما يغلب لك حال.. ولا تمد ايدك بسؤال .. ولا يشمت فيك أعداء .. ولا ييتم لك أطفال يا محسنين شوفوا المساكين .. اللى صحوا والناس نايمين .. شافوا الهوان أشكال وألوان يا محسنين يا محسنين .. قيراط ثواب من عند الله .. أحسن لكم من خزنة مال الاداء المتفرد لـ "الفخراني" علامة فارقة. إضاءته وتأثيره على باقي نجوم العمل لا تخطئهما العين. تتداخل الاستعراضات مع غناء محمد محسن وهبه، في "دويتو" متناغم، حتى يُسدل الستار على المشهد الأخير لقصة حب "نجف" و"ابن الخليفة" بإعلان زواجهما، وهو ما حدث في الواقع أيضا، بزواج "محمد وهبه" أثناء عملهما بالمسرحية. في الصالة والبنوار والبلكون، لا انفصال بين "الجمهور" و"الخشبة". لحظات الصمت أثناء العرض، تكشف درجة التركيز مع النص البديع. ترمي الإبرة ترن. يعرف الجمهور متى يضحك ومتى يصفق ومتي ينتبه. مثل هذه التجربة الناصعة، لا يجب أن تفوت دون استلهامها وتكرارها، إذا كنا جادين فعلا في استعادة ما نسميه "قوة مصر الناعمة". "المسرح بينور بالناس" وإذا كنا بحاجة إلى توافق وحالة حوار، فالمسرح يوفر هذه الحالة. هذا ما يدعو إليه الفنانان "الفخراني" ولطفي لبيب. ويزيدا عليه أن "الدولة هي الداعم الأول للمسرح، وإذا وجد كرسي واحد فاضي في أى مسرح، فمعنى ذلك أن الدعم لم يصل لمستحقيه". انطلاقا من هذه الرؤية الواعية للفنانين الكبيرين يمكن بلورة نواة مشروع قومي ثقافي كبير يواجه أزمة "تشويه الهوية" ومأساة "تجريف الشخصية المصرية"، يعرف الناس ملامحه ويشاركون في تحقيقه. وأي مشروع لا يبدأ بنهضة المسرح "لا يُعول عليه." مصر التي تواجه إرهاب "التطرف والتكفير" تحتاج بشدة إلى مثل هذا المشروع اليوم أكثر من أى وقت مضى. يحدثني كاتب كبير بأسى قائلا "لو أعلن وزير الثقافة حلمي النمنم في بداية توليه الوزارة عن مشروع قومي لنهضة المسارح وقصور الثقافة أو مسارح مصر المغلقة والمهملة، لرفعه الناس فوق الرؤوس". أزمة المسرح تحديدا، التي تشكل قلب أى مشروع ثقافي، على أهميتها، هى الأسهل في حلها، حال توفرت إرادة قوية لذلك، والوعى بدور الثقافة في مواجهة الانحطاط والارهاب معا. وهذه الرسالة الأهم من نجاح عرض "ألف ليلة". مثل كل قيمة عظيمة في مصر، تمرض ولا تموت. تشير التقديرات إلى أن 80% من مسارح الدولة مغلقة، منذ سنوات، إما للصيانة أو اشتراطات السلامة المدنية، مع ما يرافق البناء وإعادة البناء والترميم من فساد وسرقة وإهدار مال عام. وفي الوقت الذي يُعقد فيه مهرجان قومي للمسرح، هناك 6 مسارح تابعة للبيت الفني للمسرح. المهرجان نفسه مخصص له 7 ملايين جنيه وهو مبلغ زهيد جدا لمهرجان من هذا النوع. مسرح "المنصورة القومي" نموذج صارخ للإهمال يعكس إهمال الحكومة البالغ لمسارح الدولة المغلقة. هو ثاني أقدم مسارح مصر، تعرض للانهيار في تفجير مديرية أمن الدقهلية عام 2013، ولازال يعاني إهمالا جسيما وبيروقراطية تعطّلان ترميمه، رغم تخصيص منحة بـ 54 مليون جنيه من سلطنة عمان له. على موائد الحكوميين المسئولين عن ثقافة مصر، مقترحات عديدة لانهاء أزمة المسرح، أبرزها الشراكة مع القطاع الخاص وماسبيرو والقنوات الفضائية، والاعلان والترويج للعروض من خلال وسائل التواصل الحديثة، والاستفادة من مسارح قصور الثقافة بالمحافظات، وأفكار أخرى مثل حملة "عايز مسرح" التي نجحت في دعم الرئاسة لها وتخصيص مسرح "الفردوس" لعرض أعمالها، وهناك فكرة "مسرح القرية" التي ابتدعها الاخوين أحمد ويوسف اسماعيل بالمنوفية، وفكرة "المسارح المتنقلة" التي اقترحها مؤخرا الكاتب المسرحي عبدالله الطوخي. لكن إذا لم تلتئم كل هذه الأفكار وغيرها، في مشروع ثقافي كبير، فلا فائدة من أى مقترح أو فكرة فردية. قبل أن تظهر ملامح هذا المشروع الكبير، سيكون من السخف أن يطل علينا مسئول عن الثقافة أو غيرها، صارخاً، كلما وقع حادث إرهابي أو ظهر نجم جديد للبلطجة في السينما أو التلفزيون. وليمض الجادون في طريقهم لإضاءة مسارحنا بأعمال جادة مثل "ليلة من ألف ليلة"، بعيدا عن عروض "الألش الفارغ" و"الافيهات الخارجة" وحكومة "عبدالروتين".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل