المحتوى الرئيسى

الهجرة بين الواقع والخيال

09/26 14:01

مازالت ظاهرة الهجرة تحتل صدارة الجدل السياسي في العديد من البلدان. والحقيقة هي أن هذه القضية تؤثر على الاقتصاديات وعلى المجتمعات في سائر أرجاء العالم. بيد أن الرأي العام حول هذا الموضوع البالغ الأهمية يميل إلى أن تُشَكِله العواطف بدلا من الحقائق. والنتيجة هي غياب الحوار المفتوح الفعال حول مخاطر الهجرة أو فوائدها العديدة.

كان القادة الشعبويون، بشكل خاص، حريصين على التلاعب بالجدل حول الهجرة، مستخدمين أرقاما فيها الكثير من المبالغة، فضلا عن مبالغات صارخة أخرى لتأجيج الخوف في قلوب الناس. ويؤذي مثل هذا الخطاب التحريضي المهاجرين مباشرة، حتى أولئك الذين يعيشون منذ زمن في بلدهم الجديد. ففي المملكة المتحدة، سجلت نسبة جرائم الكراهية المُعلن عنها ضد المهاجرين ارتفاعا بلغ 42% على أساس سنوي في الفترة السابقة واللاحقة على استفتاء البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران الماضي.

إلا أن تأثير المشاعر المعادية للهجرة يمتد إلى أبعد من الحدود الوطنية. وإذا كانت إشاعة الخوف التي يمارسها الشعبويون تدفع بلادهم صوب تبني سياسات الإقصاء والحماية الاقتصادية، فتأثير ذلك قد يكون كارثيا على الاقتصاد العالمي، وعلى أرزاق ملايين الناس في أرجاء العالم.

والأمر مرهون الآن بالقادة السياسيين العقلانيين وبوسائط الاتصال لإعادة تقديم الحقائق لحلبة الجدل الدائر حول الهجرة. فينبغي عليهم نشر الأرقام الحقيقة لتدفق المهاجرين داخل وخارج بلدانهم على حد سواء. وعليهم أن يوضحوا للمواطنين أن العديد من المشاكل التي يُلام عليها المهاجرون ليست في حقيقة الأمر أخطاءهم هم، وعليهم تسليط الضوء على المساهمات الاجتماعية والاقتصادية واسعة النطاق للمهاجرين.

يُعزى تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي لصورة مشوهة ـرسمتها بحماس الصحف الصفراء والقادة الشعبويون- لبلد طفح بالمهاجرين. وفي الحقيقة، تُظهر استطلاعات الرأي في معظم البلدان أن السكان يبالغون للغاية في تقدير عدد المهاجرين في أوساطهم، ففي بعض بلدان أوروبا الشرقية يُقدر عدد المهاجرين المسلمين بسبعين ضعف عددهم الحقيقي.

والحقيقة هي أن حصة من يعيشون خارج بلدانهم الأصلية ازدادت زيادة ضئيلة في العقود الأخيرة وبنسبة تبلغ حوالي 3% من قرابة 7.5 مليار نسمة يحيون على وجه الأرض اليوم. وفي الأعوام الخمسة الماضية بلغ عدد من تركوا أوطانهم الأصلية 36.5 مليون شخص، أي 0.5% فقط من سكان الكوكب.

ومن قبيل الخرافة القول إن كل مواطني البلدان النامية يسعون للوصول إلى المجتمعات الغربية الثرية. إن من هاجر منهم بالفعل هم على الأرجح الحريصون على البقاء في مناطقهم. ولقد استقر أقل من 1% فقط من الأفارقة في أوروبا، بينما نرى في إحصائيات الهجرة العالمية الكثير من مواطني البلدان المتقدمة بما في ذلك 4.9 مليون مواطن من المملكة المتحدة.

وتفتقر للدقة بنفس القدر المزاعم القائلة إن المهاجرين يشكلون عبئا على الميزانيات الوطنية. ففي المملكة المتحدة يُوَلد المهاجرون مزيدا من الضرائب أكثر مما يحصدونه من فوائد.

وفي الواقع، تحتاج العديد من البلدان المتقدمة للمهاجرين، إذ تقع في أوروبا تسعة بلدان من أصل عشرة بلدان ذات أعلى نسبة سكان فوق سن 65، بينما غالبا ما تعاني البلدان الصناعية من نقص عدد العمال ذوي المهارات المنخفضة، وقد اعترفت المجر مؤخرا بحاجتها لـ 250 ألف عامل أجنبي لسد الفجوات في سوق العمل. والمهاجرون ليسوا بالضرورة غير متعلمين، ففي عام 2010 كانت نسبة 29% من المهاجرين إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من الحاصلين على درجات جامعية.

وبالإضافة إلى مساهمتهم في اقتصاديات البلدان المضيفة كعمال ومقاولين ومستثمرين ودافعي ضرائب، يدعم المهاجرون (واللاجئون) التنمية في بلدانهم الأصلية عبر تحويلاتهم المالية إليها. وفي الواقع، تمثل هذه التحويلات حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي للعديد من البلدان النامية، وغالبا ما تكون أكبر مصدر للعملة الأجنبية. ولا يقتصر دور التحويلات المالية على المساعدة في تسديد قيمة الواردات الحساسة بتحسين ميزان المدفوعات، لكنها تسمح أيضا لهذه البلدان بالاقتراض من أسواق الرأسمال الخاص بأسعار فائدة أقل.

ولا شك في وجود تحديات مرتبطة بالهجرة، ولكنها تحديات يمكن التغلب عليها. وكان يمكن لعمل دولي منسق مواجهة أزمة اللاجئين في البحر المتوسط ـ التي أثارت الرعب في أرجاء أوروبا- مواجهة فعالة كما كان يحدث في السابق. ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التأم جمع المجتمع الدولي لإعادة توطين أكثر من مليون فيتنامي، وفي التسعينيات انتفضت أوروبا وقدمت يد المساعدة حين تسببت الصراعات في البلقان في تشريد قرابة أربعة ملايين شخص.

بيد أن الأجواء السياسية السائدة اليوم أقل ترحيبا بذلك؛ فدونالد ترامب، المرشح الرئاسي للولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري، يعتبر اللاجئين السوريين الفارين إنقاذا لحياتهم تهديدا لأمن الولايات المتحدة، هذا على الرغم من إجراءات الفحص الدقيق التي تقوم بها الإدارة الحالية، التي تعهدت بقبول 10 آلاف لاجيء بحلول نهاية السنة المالية. ومن المقرر أن يجري في المجر في أكتوبر/تشرين أول القادم استفتاء حول حصص دول الاتحاد الأوروبي من اللاجئين.

وبينما تتقاتل البلدان المتقدمة لإبعاد طالبي اللجوء ـوهم في حالة المجر لا يتعدون بضعة آلاف- تستضيف البلدان النامية الملايين من هؤلاء. فهناك خمسة بلدان يقل مجموع الناتج المحلي الإجمالي لها عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ــ هي تركيا والأردن وباكستان ولبنان وجنوب أفريقيا- توفر المأوى لقرابة نصف لاجئي العالم. بينما أغنى ستة بلدان في العالم -الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة- والتي تبلغ حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي 60% تستضيف فقط أقل من 9% من كل اللاجئين في العام المنصرم.

وليس هذا من قبيل الصدفة، ففي الفترة ما بين 2010 و 2014 أنفقت البلدان الأوروبية أكثر من مليار يورو (أي 1.1 مليار دولار) لبناء الجدران والحدود. وتفضي هذه المحاولات "لاستعادة السيطرة" عبر تشييد حواجز جديدة إلى وقوع المهاجرين في أيدي مهربين استغلاليين وإلى تقوض التجارة والتعاون.

وفي ظل هذا الوضع، وصل فقط 7200 مهاجر غير أوروبي من أصل 22504 تعهد الاتحاد الأوروبي بإعادة توطينهم العام الماضي. ومازال على آلاف الأطفال الوحيدين، الطرف الأضعف بين المهاجرين، البحث عن مأوى. ويُعد هذا -وفقا للالتزامات القانونية لكل الأطراف الموقعة على اتفاقية اللاجئين عام 1951- اختبارا للقيم والأخلاق الإنسانية، وهو الاختبار الذي تفشل فيه اجتيازه إلى حد بعيد ما تسمى بالدول المتقدمة.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل