المحتوى الرئيسى

نتنياهو سيقنع العالم

09/26 01:19

مرة أخرى، بنيامين نتنياهو في نيويورك. وهو يجول في المدينة الدولية، التي يسير في شوارعها جنباً إلى جنب أبناء كل قوميات العالم، يحتسون الفهوة ذاتها. وفي هذا الأسبوع، حيث تُقام الدورة السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، يكونون أكثر. صحافيون، سفراء وزعماء من كل العلم يجتمعون لأسبوع واحد، خطابات، اتصالات، لقاءات ومشتريات، ويسدّون شوارع المدينة، الغارقة برجال الشرطة والمباحث، والحواجز ومكعبات الإسمنت.

وفي قلب هذه المتاهة الملوّنة، في بناء يستخدم لتمثيل 193 دولة ومليارات البشر، يثير نتنياهو مرة تلو مرة الموضوع الأشد إشكالية في العلاقات الخارجية لكيان العدو، المسألة التي لا يفلح ألف إطفائي في إطفائها ولا ألف شارح في تفسيرها: المغتصبات.

ورغم صراخ اليمين هنا، وتباكي المعسكر القومي واستغلال رئيس الحكومة، فإنها ليست المنظمات اليسارية والإعلام هو ما يدفع العالم بأسره للتركيز على المغتصبات. والزعم والغضب، المبرر أحياناً، على فرط الانشغال بالموضوع وقلة التناسب، هما ثمرة نظرة مشوهة ترى بأننا إذا لم نتحدث عن المغتصبات، فإن العالم لا ينتبه لها.

غير أن هذه النظرة تتعامل مع موضوع الاغتصاب كما لو أنه خداع وكذب. فنحن نفهم أن هذا أمر سيئ ـ مخالفة، سرقة أو سلب ـ ونحن ينبغي أن نسكت وننشغل باختلاق الذرائع، حتى لا يضبطونا. وهذا تكتيك يسيء في الأساس للمستوطنين وللمشروع الاغتصابي، الذي نشأ كفخر الصناعة اليهودية.

ومن اللحظة الأولى رأى المغتصبون في مهمتهم فعلاً صهيونياً طاهراً. وقد جاءوا لاغتصاب البلاد، وكان السجال الوحيد هو هل هم يواصلون طريق الصهيونية العملية أم أنهم يعملون خارج المعسكر. فمنشئو البلاد، بأغلبيتهم الساحقة من الحركات العمالية، كانوا طلائعيين ومغتصبين آمنوا بفرض الوقائع على الأرض، في مغتصبات ترسم حدود البلاد بالحراثة والباطون، بالزراعة والعرق. ولم يكن جدال حول هذا. لا في عهد الجدار والبرج أيام الحكم البريطاني، ولا بعد احتلال أراضٍ واسعة في النقب والجليل في حرب الاستقلال. هذه هي الصهيونية. وربما أن هذه نكبة بعض العرب ممن أقاموا في البلاد حينها، ولكن هذه كانت معجزة وأعجوبة قيام دولة اليهود.

وبعد الانتصار في حرب الأيام الستة، حينما عرض اسحق رابين كرئيس للأركان وموشي ديان كوزير للدفاع على رئيس الحكومة ليفي أشكول قائمة الاحتلالات في الضفة والقطاع والجولان وبداهة تحرير وتوحيد القدس، أثير السؤال: ما العمل مع «المناطق»؟ كان هناك من أراد إعادتها فوراً، قلة طالبت بإبقائها إلى الأبد، والأغلبية قررت الاحتفاظ بها مؤقتاً، كورقة مساومة في السلام مع العرب.

الأمر نجح مع مصر، التي بعد عشر سنوات نالت كل أراضيها المحتلة، عدا قطاع غزة، الذي ألقته بحكمة في حضن كيان العدو وبذلك جعلت المنطقة مشكلة لنا. وهذا نجح مع الأردن، الذي تقريباً بعد ثلاثة عقود نال أراضيه، عدا الضفة الغربية التي لم يطلبها وانفصل عنها عام 1987، بعدما أحبط اسحق رابين اتفاق لندن (الذي وقعه شمعون بيريز والملك حسين، وفي إطاره يتحمل الأردن المسؤولية عن السكان الفلسطينيين في أراض تحظى بالحكم الذاتي الوظيفي). وليس عبثاً، قال عضو الكنيست السابق حاييم أورون من ميرتس، إن «اليمين مغرم بالحل الأخير الذي أفلح في إجهاضه». فنفتالي بينت، تسيبي حوتبولي ونتنياهو يستميتون من أجل مبادرة كهذه.

ولكن حينها وقف رجال غوش إيمونيم، الذين آمنوا أنه بعون الله وبيت آخر وتلة أخرى سيعيدون الضفة الغربية، مهد تكوين الشعب اليهودي، وموقع التوراة وقبور الآباء، للسيادة اليهودية. وقالوا، نحن مواصلو درب منشئي حانيتا ونجبا، نحن الطلائعيين مواصلو تعمير البوادي ومحتلو الأراضي الفارغة. والاغتصاب سيؤثر على رسم حدود الدولة، وليس الخط الأخضر الذي رسم في اتفاقيات وقف النار عام 1949. اليساريون اقتنعوا. شمعون بيريز كوزير للدفاع سمح بالاغتصاب، ومغتصبات غزة بادر لها إسرائيل جليلي من حركة العمل.

وأنشأت غوش إيمونيم مشروعها، وعلى الطريق وسعت الحدود وعمقت السيطرة. والموقع الاغتصابي غدا مغتصبة، والمغتصبة مدينة والمدينة تكتلاً. وأقيمت عشرات النقاط المنعزلة في قلب منطقة محاطة بالقرى العربية. والأرقام لا تكذب: 2-3 ملايين عربي يعيشون في الضفة الغربية مقابل 400 ألف يهودي.

لقد منحتهم الدولة إذناً، ودعماً ومالاً. سواء في عهد المعراخ أو ليكود مناحيم بيغين، الذي ضخ المزيد والمزيد من الموارد برعاية أرييل شارون. وكان بالوسع أن يبقى الأمر سجالاً داخلياً حول صورة الصهيونية، لولا أن الدولة قررت إبقاء المناطق تحت الحكم العسكري. فقد ضمت إسرائيل الجولان وشرقي القدس ولم تضم غزة والضفة، وحتى اليوم فإن السيادة على الأرض لقائد الجبهة الوسطى. لذلك في كل مرة يقولون فيها إن المغتصبات جزء من كيان العدو، فإنهم يتحدثون عن واقع وعن أماني في الوقت نفسه.

والمشكلة الثانية هي العالم. فهو لم يعترف ولا يعترف بالضم، ويرى في إقامة المغتصبات جريمة حرب في أسوأ الأحوال أو انتهاكاً فظاً للقواعد في أقلها سوء. ووفق القانون الدولي، لا يسمح لدولة بإنشاء مغتصبات في أرض محتلة – هذه جريمة حرب. بالمقابل تزعم إسرائيل أن الأرض ليست محتلة وأن المحتل الفعلي هو الأردن، الذي سيطر عليها في حرب الاستقلال، مع انتهاء الانتداب البريطاني. ومَن يحتل مِن محتل فإنه معفى. من جهة ثانية، هي أبداً لم تذهب حتى النهاية في حكم قضائي دولي في لاهاي أو أي مؤسسة أخرى. لأنهم جميعاً لا ساميون والأمر لن ينجح.

وهذه جوهر الجدال القائم بين أوباما ونتنياهو. واحد يزعم أن المغتصبات تشكل عقبة أمام السلام واستمرار للسيطرة على الوطن الفلسطيني واحتلاله، والثاني يقول إن هذه ليست المسألة التي تعرقل المصالحة. ويؤمن نتنياهو أن بوسعه في النهاية أن يثبت للعالم أنهم مخطئون، وأن المشكلة ليست المغتصبات وإنما قلة استعداد العرب للتنازل عن حق العودة إلى حدود احتلت في حرب الاستقلال وانعدام استعدادهم للاعتراف بوجود إسرائيل في أية حدود. ولكن حتى لو كان محقاً، فإن هذا لا يحلّ المشكلة.

وحتى إذا وجدت دولة واحدة ترى أن نتنياهو محق، وحالياً ليست هناك دولة كهذه، فإن غياب الإرادة، الزعامة والرؤيا الفلسطينية بالتوصل إلى سلام لا يسوغ منطق مواصلة تطوير المشروع الاغتصابي. فهو يعتبر خطوة معادية للسيطرة التدريجية على الأرض، بشكل لا يسمح بالتخلي عنها، تقسيمها أو إنشاء كيان عربي آخر. وهم محقون: وهذا بالضبط هدف المغتصبين. هم يريدون تحويل الاغتصاب إلى فعل لا تراجع عنه. وهم يؤمنون أن العالم سيعترف بالواقع الناشئ.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل