المحتوى الرئيسى

اللص الكبير

09/24 22:03

طلب منى كاتب ناشئ نصيحتى لكى يبزغ نجمه فى عالم الدراما السينمائية والتليفزيونية، فبادرته بلا تردد: «عليك أن تكون فاشلاً لكى تنجح».. فلما أبدى دهشته أردفت مستدركاً:

- بشرط أن يكون فشلك مصحوباً بصخب وجلبة وضجيج دِعائى تشيع من خلاله فى كل مناسبة، وبلا مناسبة، وفى كل وقت وفى أى مكان تذهب إليه أنك كاتب كبير، وأنك الأوحد المتفرد، الأعظم، فلتة زمانك، ومعجزة جيلك، وأعجوبة عصرك.. وأؤكد لك أن الجميع سوف يصدقونك على الفور، بل سيحملونك على الأعناق وسيتبارون فى الدفاع عنك إذا ما صادفتك العثرات فى طريق صعودك إلى القمة؛ فليس المهم القيمة الحقيقية لإنتاجك لكن القيمة فيما تعلنه عن نفسك، وفيما تشيعه عن أهميتك؛ فالجماهير لن تمنحك ذلك الشرف سواء كنت تستحقه أو لا تستحقه.. والألقاب الشائعة وما أكثرها مثل «نجمة الجماهير»، أو «نجمة مصر الأولى»، و«ملك الفيديو»، و«مخرج الروائع»، و«مدرب الكرة الداهية»، ومعلق المباريات «الجنرال»، و«عندليب الملاعب»، و«سيدة الشعور القومى».. كلها ألقاب صنعها أصحابها وألحوا عليها فصارت حقيقة.. إن سيكولوجية الشائعة أقوى من الرأى الموضوعى، وبارانويا الشخصية المتورمة الذات أكثر من التقييم الدقيق، وبالونات الدعاية أكثر تأثيراً من الموهبة الحقيقية، والمسلمات فى حياتنا تبدأ بأكذوبة ثم تصير تراثاً مثل أكذوبة أن «على بابا» رجل شريف بينما هو فى الحقيقة لص أثيم أخذ ما لا حق له فيه وعاش من حصيلته فى رغد عيش مع جاريته «مرجانة».

والإلحاح على الأكاذيب يعطيها -وبسرعة غريبة- شرعية الوجود، والانتشار والذيوع والتحقق وأن تفرض نفسها كحقيقة ساطعة.

كنت أحد المدعوين -بطريق الصدفة أو الخطأ- إلى سهرة مخملية من تلك السهرات التى تضم أهل الفن، وإذا بشاب أنيق لا أعرفه يميل على أذنى هامساً مؤكداً أن الكاتب الكبير «فلان الفلانى» سوف يشرف المكان بعد قليل.. وأسرع مهرولاً تاركاً إياى فى حيرة بالغة، فالكاتب الكبير هذا لا كبير ولا يحزنون، ورصيده من الإبداع هزيل، ولم يسبق أن نجح له عمل فنى سواء على المستوى الجماهيرى أو الفنى ويعيش على سرقة الأفلام الأجنبية أو أفكار الأفلام أو المسلسلات المصرية التى كتبها غيره بعد تحويرها وتشويهها لزوم التمويه وإبعادها عن شبهة السرقة.. ولى معه واقعة سوف أسردها بعد قليل.. المهم بعد انصراف الشاب قلت لنفسى: ما علاقتى أنا بالأمر ولماذا يخبرنى بقدوم الكاتب الكبير.. إنه ليس صديقاً لى، ولا يهمه أمرى، كما لا يهمنى أمره حتى يسعى ذلك الشاب ليزف إلىّ خبر قدومه السعيد.

وما إن أفقت من حيرتى ودهشتى وشرودى حتى كان هذا الشاب يميل على أذنى مرة أخرى هامساً مؤكداً أن الكاتب الكبير قد وصل ويقوم بركن سيارته وسوف يهل علينا بطلعته البهية حالاً.. وأسرع مرة أخرى تاركاً إياى وأنا أتميز من الغيظ، ثم انتبهت إلى أنه يميل على أذن الجميع حاملاً إليهم تلك البشارة.. ثم أطل علينا الكاتب الكبير بحلته الفاخرة وشعره المصفف بعناية فائقة وسيجاره الأنيق، وعطره الباريسى النفاذ، ونظرته الرومانسية الناعسة.. يوزع ابتساماته المقتضبة وإيماءاته المقتصدة ولفتاته المحسوبة بعناية وهمهمات تحياته الفاترة التى يمن بها علينا دونما إفراط أو تزيد.

وكم هالنى أن يتسابق الكثيرون إلى معانقته والترحيب الحار به، تاركين أماكنهم متحلقين حوله فى احتفاء بالغ وإكبار وإجلال.. وبعضهم يتزاحم ليتخذ الوضع المناسب للظهور إلى جواره فى مواجهة عدسات المصورين.

ولما تلفت حوله فى استعلاء وتأفف، ولم يجد مكاناً شاغراً يجلس إليه فقد أسعدنى أن أترك له مكانى وأنصرف محتفظاً بكرامتى قبل أن يميل ذلك الشاب الأنيق على أذنى هامساً:

- ده مكان الكاتب الكبير..

منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تعرضت لسطو سافر على مسلسل شهير كتبته وعُرض محققاً نجاحاً كبيراً.. حيث انقض هذا الكاتب -الذى كان ما زال فى أول الطريق- على الفكرة الرئيسية وتفاصيل شخصية البطل ونسج منها مسلسلاً متشابهاً.. وأتذكر وقتها أننى ذهبت إلى أستاذى الروائى الكبير والسيناريست الراحل «يوسف جوهر» أشكو إليه وأنا أتميز غضباً وجسدى كله ينتفض بالسخط والانفعال وسألته النصيحة.. هل أقاضيه؟!.. هل أشهر بفعلته النكراء على صفحات الجرائد والمجلات؟!.. هل.. هل؟!..

قاطعنى بهدوء وحكمة: لا تفعل هذا أو ذاك.. أنا شخصياً أصابنى أكثر من مرة ما أصابك ولم أفعل شيئاً.

صرخت بدهشة واستنكار: كيف يستولى على عصير إبداعى وثمرة جهدى وجوهر فكرى وينسبه لنفسه وأبقى متفرجاً وكأنى أهنئه على جريمته.

قال الأستاذ بنفس الهدوء والتؤدة:

- سأروى لك قصة جاءت على لسان شاعر الهند العظيم «طاغور».. حدث ذات يوم أن تم القبض على لص فى دارنا فحملنى الفضول وأنا طفل صغير على أن أسرع إلى مكان الحادث لأرشق اللص بنظرتى المتسائلة الدهشة.. فإذا بى أجد أمامى إنساناً بائساً.. وعندما رأيت البواب يجذبه فى عنف وقسوة شعرت برأفة تمس أعماق قلبى وتمنيت فى هذه اللحظة أن أكتب قصيدة من الشعر.. وأضع كلمة إلى جوار كلمة أخرى حتى أنهيت هذه القصيدة البدائية وعرفت منها قدرتى على كتابة الشعر وميلى إلى ذلك.. والآن حين أتذكر تلك الأبيات المسكينة وأقسو فى الحكم عليها فإن الرأفة بهذه القصيدة الأولى تملأ قلبى أيضاً كما امتلأ هذا القلب بالرأفة نحو اللص المسكين..

هكذا اكتشف «طاغور» أنه شاعر.. وقد نبعت شاعريته الأولى من الشعور القوى بالرأفة تجاه إنسان مسكين ساقته ظروفه الصعبة إلى أن يصبح لصاً.. وكان حظه سيئاً فأمسك به البواب وعامله بقسوة حركت قلب الصبى «طاغور» فاكتشف أنه شاعر..

قلت له: ولكنى لست كاتباً مبتدئاً اكتشف نفسى من خلال سرقة الآخرين لى.. قال الأستاذ مكملاً دون أن يتوقف عند اعتراضى: هذه القصة الطريفة تعطينا -كما يرى الناقد الكبير «رجاء النقاش»- المفتاح الرئيسى لشاعرية «طاغور».. وهذا المفتاح هو «الرأفة» فشعره كله بل كل ما أبدعه من فنون أخرى تنبع جميعاً من الشعور العميق بالرأفة تجاه الإنسان والحياة فليس فى شعر «طاغور» اتهام لأحد أو إدانة لأحد بل فيه عطف وحنان ومواساة حتى للمخطئين والعصاة ومع ذلك فشعور «طاغور» مضىء وعميق.. إن سرقة موضوع من إبداعك بواسطة هذا القرصان لن ينتقص من قيمتك أو قدرك وفى الوقت نفسه لن يغنيه لأسباب كثيرة:

أولاً: أنه لن ينبغ أو يتفوق عن طريق هذا الأسلوب وسوف يكشفه الجميع كما كشفته أنت فالموهبة هى طريق النجاح..

ثانياً: لو لم تكن قصتك عميقة ومؤثرة وجذابة ما سرقها.. أما أنت فسوف يستمر نهر عطائك لأنك تستمده من وهج موهبتك وكنز معرفتك وجمال تجربتك وذوب قلبك وعقلك..

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل