المحتوى الرئيسى

المقهى، المسجد.. النساء

09/23 01:24

هذه مقاطع من مذكرات طويلة لعبد الحكيم قاسم، أو اعترافاته الجريئة.. كتبها في بداية الثمانينيات، لتنشر كمدخل لمجموعته القصصية «الأشواق والأسى»، ولكن لأسباب غير مفهومة نشرت المجموعة في سلسلة «مختارات فصول» عن هيئة الكتاب، بدون هذه «الاعترافات».. وأثناء عملي على كتاب «كتابات نوبة الحراسة: رسائل عبد الحكيم قاسم» منحني شقيقه عبد المنعم صورة ضوئية من هذه المذكرات، التي كانت هامة لفك نص الرسائل وفهمها وتأويلها.

في المذكرات يتأمل صاحب «أيام الإنسان السبعة» الذات، ذاته.. يعود إلى البدايات التي شكلت في ما بعد انحيازاته. يكتب عن الطفولة، والأب، والأم، وتأثيرهما عليه، عن القرية، وجلسات الحضرة، عن الأصدقاء، والسجون، واليسار، وعن المرأة. كتابة تسأل، وتتأمل، ترصد مسيرة الذات في الحياة.. وتنقلاتها المختلفة، وتناقضاتها، وعذاباتها الروحية والفكرية.. كتابة بدون أقنعة ولا مساحيق، ولا طبقات تحجب.. تأملات في البدايات ومرحلة القاهرة قبل رحلة التغريبة الكبرى التي ترك لها لها صاحب «محاولة للخروج» يوميات أخرى مفصلة.

أريد أن أقول شيئا عن الآثار التي بقيت في نفسي من الأماكن التي عشت فيها. هذا الأثر كله، على مدى عمري الذي عشته، يتلخص في إحساس واحد شامل مؤداه أن الأماكن من حولي تتسخ وتسري فيها باطراد وإلحاح روح التدهور والخراب. وسواء أكان ذلك في البندرة التي قضيت فيها سنين طفولتي المبكرة، أو «ميت غمر» التي قضيت فيها أيام دراستي في المدرسة الابتدائية، أو في طنطا حيث مدرستي الثانوية، أو في الإسكندرية التي درست فيها الحقوق في جامعتها، أو في القاهرة التي عملت فيها وعشت حتى رحيلي إلى ألمانيا، في كل هذه الأماكن وعلى مدى هذه السنين رأيت إحساس الناس بالمكان من حولهم يضمحل، ويضمحل انتماؤهم إليه، وتنفسح بينهم وبينه مسافة الغربة فيكون بوار المكان وإقفاره. وليس هنا محل الإسهاب على ذلك برؤى ومشاهد في كل هذه المحال على مدى الأوقات. إنما أكتفي بالاندهاش الذي يعوّق عن الفهم، والذي أحس به وأنا أستعيد هذا كله.

الآن وقد ذكرت الناس وأشرت إلى الأماكن، فإنني أريد على قدر الوسع أن أحدد وأوصل مفهومي للرجل والمرأة عندي. لأبدأ لذلك من البدء، حيث فتحت عيني على عالمين هما الدار في جانب، أو الدوّار أو المسجد أو الباحة على رأس الحارة في الجانب الآخر، الدار حيث تكون النساء، والدوار أو المسجد أو الباحة حيث يكون الرجال. دون شك كأن ثمة يقينا لا يتحول بأن هذين العالمين مرتبطان ارتباطا لا ينفصم. لكن الدار- بشكل أو بآخر- كانت العالم الذي لا يعتور جوهره الغامض نقص ما في الإدراك أو البصيرة، وهذا ربما متولد عن نقص خُلُقي ناشئ من نقص خِلقي أزلي، وعليه فإن عالم الدار يجب أن يكف من قبل عالم الرجال وأن يرغم على أن يتوارى، يخفض صوته وينكمش على نفسه، ويكون كمال الفضيلة لو أنه تم إخفاؤه بإحكام تام. أما عالم الرجال فهو بالمقارنة بعالم النساء الأكثر كمالا ونظافة وحكمة، وهو الأرحب آفاقا، وذلك معطى بمحض التكوين.

وجدت هذا التصور راسخا، يتحول في أحاديث الرجال إلى حكم منغومة مؤثرة، ويتحول في أحاديث النساء إلى إقرار مبشر يائس وشتم في الذات وتقزز من حقائقها. على أنه في قلوب الرجال والنساء وتحت رسوخ هذا التصور كان ثمة عروق من الشك ناشبة وغير متراجعة توشك أن تحدث صدعا في ما هو مستقر.. فالنساء تعتريهن لحظات من التمرد وجحد ما يدعيه الرجال لأنفسهم من منزلة، وهذا التمرد يأخذ صورة شتم مقذع أو رفض لما هو مفروض. كما تعتريهن أحيانا لحظات من الحب للرجل كإنسان، كأب أو أخ أو ابن أو بشر مجرد من ملابسات هذا الوضع. والرجال كذلك تأتي عليهم لحظات من الخوف والشك في الذات والإنصات إلى ما يأتي من ناحية النساء من شتم، بل إنهم يقفون - إزاء المأزق الذي هم فيه - حائرين، قلوبهم مليئة برغبة غامضة في أن ينهدم هذا الحائط الموهوم بين العالمين، ذلك الذي عليه ينكسر الشوق إلى المرأة الأم، الابنة، الأخت، أو العشيرة.

على أنه لم تكن كل النساء في قريتي قعيدات الدار، ولا كان كل الرجال جلساء الدوار أو الباحة على رأس الحارة، بل إن هذا الوضع كان شاملا لأقلية من أهل البلد لها من الرزق والسعة ما يمكنها من أن تقصر نساءها في الدور. أما أغلب الناس فكانوا يجلسون في أوقات فراغهم على المصاطب أمام أبواب الدور في الحارات الضيقة، وعلى مقربة منهم تجلس النساء، ويكون اقتراب العالمين حتى الالتحام. كذلك فإنه حين يعمل في الحقول الناس رجالا ونساء كانت المسافة بينهم تضيق حتى تختفي، ويقل العداء وتوشك أن تتوحد اللغة المستعملة. لكن الخط الفاصل بين العالمين لم يضع أبدا، وإنما يزداد سمكا وعمقا، أو يزداد شحوبا، لكنه هناك، بل إنني لم يصادفني واحد يتصور العالمين متحدين في واحد، إن الفكرة مستحيلة حتى إنها لم تخطر لأحد أعرفه في ذلك الوقت على بال.

وفي بيت جدي في «ميت القرشي» وفي «ميت غمر» كان المساء يجمع الأسرة كلها على الشاي والحديث الطيب. حينذاك كان الخط الفاصل بين العالمين يبهت حتى يكاد يختفي. ثم فجأة يطرق الباب ضيف زائر، والطرقة تحل فاصلة بين العالمين كأنما لم يلتقيا أبدا. تسرع النساء إلى الاستخفاء، ويبرز الرجال للضيوف، يقودونهم إلى غرفة الجلوس. تلك الغرفة المكنونة النظيفة كانت تمثل - في بيت جدي وغيره من ناس الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة في المدن - ما يمكن إظهاره للعالم الخارجي من البيت، جزءا نظيفا مهيبا وقورا، ورجوليا مثل كل شيء. هذه الغرفة أيضا كانت تمثل في هذه البيوت قلقا خاصا وعبئا ثقيلا، كأنما هي رمز شقاء الرجال والنساء بأدوارهما المقسومة، ولكن أحدا لم يكن يتصور البيت من غيرها.

وبعدما تركت «ميت غمر» والتحقت بالمدرسة الثانوية كنت أعيش في البندرة وأسافر بالقطار كل يوم إلى طنطا. في ذلك الوقت كان يسافر معنا نحن التلاميذ من عديد القرى التي يمر بها القطار، عدد من الفتيات، يجلسن ساكنات في أماكنهن والجدعان يصخبون حولهن تكاد الحيوية تمزق صدورهم. والبنات رغم الصمت والسكون لسن أقل ضيقا بالجدار الموهوم القائم بين الجانبين. الكل ساخط عليه، الكل يرتطم به، الكل يحاول أن يخترقه. فإذا تمّ ذلك، إذا ما تقارب فتى وفتاة فتلك حادثة تقابل من الآخرين بدهشة تكاد تكون ذعرا، وربما تكون فضيحة ذات عواقب سيئة. إن هذا الجدار البغيض ثقيل على كل قلب، لكن من غيره تكون الفتنة المخيفة، فتنة يخاف كل واحد منها، حتى قبل أن يحاول تصور كيف تبدو وكيف تكون.

على أنني كنت كثيرا ما يصيبني التعب والضجر من السفر اليومي بين البندرة وطنطا، فأقيم في المدينة حيث مدرستي. في هذه الحالة كنا نهبط أسافل الأحياء، ويكون الأجر أجر غرفة كبيرة يشترك فيها عدد من التلاميذ في بيت كبير قديم تسكنه أسر معدمة، تستقل كل واحدة فيه بغرفة. هؤلاء الفقراء كانوا في حالة من البؤس تذهلهم عن الانشغال بشيء يتجاوز مجرد وجودهم المادي. وعليه فقد كان فناء البيت يزخر بخلق رجال ونساء وعيال يعيشون فعلا حالة من التحرر من أي مواضعة اجتماعية من أي نوع.

ومرات كانوا يجرّبون الانطلاق والفرح الحقيقيين، لكن الرجال من دون هؤلاء الخلق كانوا موصولين بمجتمع طنطا ومواضعاته، وخاصة بمؤسستين هائلتين هما المسجد والمقهى. كان صوت مجتمع طنطا يصل حتى أفنية هذه البيوت. وإذا كان يصطدم بصمم النساء، فإنه كان يجد صدى في قلوب الرجال. يمضون وسط صراخ النساء وشتائمهن إلى المقهى أو إلى المسجد ويعودون ليواجهوا الغضب والعراك. ومحصلة هذا الوضع أنه في أفنية هذه البيوت يتوحد الرجال والنساء في عالم، لكنها وحدة مهددة دائما بمروق الرجال إلى حيث يمارسون إحساسهم برجولتهم في المسجد أو المقهى، وعليه فهذه الوحدة لا تستقر وتتضح وتكون لها شخصية وتقاليد، بل تبقى وضعا هامشيا فاقد الاقتناع بذاته فهو مخلخل وصاخب.

وحينما التحقت بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية كان معنا طبعا فتيات. كن يمثلن أقلية قليلة، وكن يجلسن في الصفوف الأولى من المدرجات ولا يتحدثن مع الطلبة إطلاقا تقريبا. لكن كان ثمة محاولة دائبة للخروج من مأزق الثنائية هذا. وكان هناك إلحاح على ما يسمى بالروح الجامعية، وهذا مفهوم مؤداه أن يوجد الطلبة والطالبات معا في إطار الفضيلة، ومعنى ذلك ألا تنشأ بين أزواج منهم علاقات جنسية. الكل كان يلح على ضرورة هذه الروح الجامعية، لكنني أزعم أن كل طالب وطالبة بلا استثناء كان يأمل أن يظفر بعلاقة جنسية - أو ما يسمونه الحب - مع زميلة أو زميل. لكن وجود البنات والصبيان معا في حفلات أو رحلات أو اجتماعات كانت تنشأ عنه وبشكل طبيعي تماما لحظات من زوال الجدران بين عالمي المرأة والرجل. تلك كانت لحظات قليلة ومتباعدة لا زلت أتذكر أنها كانت رائعة لكنها لم تتحول عندي إلى تجربة محولة.

خارج جدران الجامعة كان الطلبة القادمون من خارج المدينة يعيشون فيها كأجانب لا يختلطون بأهلها أبدا. في هذه الحالة لم نكن نرى من النساء إلا المومسات. لقد خبرت هذا العالم بعمق، لكني لا أريد أن أتكلم عنه هنا كثيرا. كل ما أريد أن أقوله إن الطلبة والمومسات كانوا يعيشون وضعا استثنائيا جدا، وإن العلاقة بينهما كانت تنزل، لا أقول إلى مجرد الفعل الجنسي، بل إلى الإيلاج والإنزال المؤديين إلى تخفف الرجل من احتياج عضوي. وهذه علاقة فقيرة إلى درجة غير إنسانية ومدمرة. ولا يقلل من تأثير هذه العلاقة على الجانبين أن الطلبة كانوا يمارسونها مؤقتا وأن المومسات كن يمارسنها بأجسام باردة وكنوع من العمل لكسب العيش. الجانبان كانت تنتابهما تمزقات روحية مؤلمة. على أن هذه العلاقة كانت تتضمن نوعا من التمرد، لكن جوهر العصيان فيه برّاق وجذاب، وهو تمرد على ما في المواضعة الاجتماعية من إلحاق عالم المرأة بعالم الرجل وتبعيته له. الجانبان - الطلبة والمومسات - فيهما رفض كامن عميق لهذا الوضع. ومن حيث إنهما لا يملكان إمكانية إنشاء مواضعة اجتماعية أخرى، فهما يجردان العلاقة بينهما من كل صور العلاقة بين الرجل والمرأة التي عرفاها وينزلان بها إلى مستوى المبادلة بين الإيلاج وثمنه. هذه علاقة حرة تكون في كل مرة موضوع مساومة خاصة بلا طقوس ولا تراتيل، علاقة لها مدة سريان وواضحة فيها التزامات كل طرف.

إن علاقة المومسات بالطلبة في حد ذاتها كانت تتضمن كل أنواع الشتم والازدراء للعلاقة القائمة بين عالمي الرجل والمرأة في المواضعة الاجتماعية المعروفة، ومن هنا جاذبيتها. لكنها رغم جوهر التمرد الكائن فيها تبقى علاقة غير إنسانية ومدمرة. وعليه فقد كان هناك دائما محاولات للخروج منها، وذلك بأن يحول طالب علاقته بمومسة إلى صحبة أو زواج. لكن هذه المحاولات كانت غالبا ما تبوء بالفشل ويشتاق كل واحد من الجانبين للتحرر مرة أخرى.

من مواليد قرية «المندرة» التابعة لطنطا عام 1935، وحصل على الشهادة الثانوية في مدرستها.

توفيت والدته وهو صغير فتزوج والده من أخرى وأنجــب عشرة أولاد: 4 صبيان و6 بنات.

جذبته القاهرة فذهب إليها ليعيش فيها عيشة الفقر. ومارس عدداً من المهن الصغيرة من أجل تأمين لقمة العيش وأجور المواصلات وأجرة «الحجر» الذي يأوي إليه مساء.

انتسب إلى قسم الحقوق في جامعة القاهرة ونال الإجازة عام 1968.

استهوته الأفكار اليسارية بسبب تعرفه على بعض التنظيمات الماركسية وارتباطه بها، ولكن هذا الارتباط قاده إلى السجن حيث أمضى قرابة الأربع سنوات (1961 - 1964).

في العام 1974 هاجر إلى ألمانيا الغربية بهدف الحصول على الدكتوراه وعاش فيها عقداً من الزمن. وفي العام 1985 عاد إلى القاهرة.

أعلن توبته عن أفكاره القديمة اليسارية وأعلن أنه كاتب عربي مسلم، وأن الإسلام هويته وعقيدته وأفرط في شن الهجوم على كل ما آمن به في شبابه، في زاويته الأسبوعية في صحيفة «الشعب».

في العام 1987 رشح نفسه لعضوية مجلس الأمة على لوائح حزب التجمع، ولكنه لم يلق التأييد المطلوب من أبناء منطقته.

أصيب بجلطة في دماغه وتوفي على أثرها في 1990/11/13.

] أيام الإنسان السبعة (1969).

] قدر الغرف المقبضة (1982).

] الأشواق والأسى - قصص قصيرة (1984).

] الهجرة إلى غير المألوف (1986).

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل