المحتوى الرئيسى

الإعلام المصري وتحولاته: محرك السياسة وضحيتها

09/23 01:00

ربما تكون إحدى سمات المجتمع المصري هي الاستجابة السريعة والمرنة للمتغيرات في وسائل الإعلام.

النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي شهِدَ ميلاد القنوات الفضائية، العربية والمصرية. وبعد مرور فترة قصيرة، أصبح لهذه القنوات دورٌ هام ومؤثر في الشارع المصري، حتى أن ظهور صورة الطفل الشهيد محمد الدرة على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد كان كفيلاً بتحريك الشارع المصري للتضامن مع الانتفاضة. كما شهد الشارع السياسي المصري مع مطلع الألفية الثالثة تحولاً واضحاً في الحراك كان دور الإعلام فيه واضحاً، خاصة مع ظهور الحركات المناهضة للتوريث والمطالبة بالتغيير الديموقراطي.

وفّر الانفتاح الإعلامي الذي تمثلّ في وجود فضائيات غير خاضعة للرقابة المباشرة من الدولة وأجهزتها، والصحف المستقلة التي ضمنت تنوعاً في مصادر الأخبار، تدفق المعلومات والأخبار للمشاهد والقارئ، وكَسَر احتكار الدولة لأدوات تشكيل الرأي العام.

لكن التأثير الأهم بدأ مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. وليس أدلّ على ذلك من أنه بعد أربع سنوات فقط من ظهور موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» في العالم، أطلقت منه في مصر دعوة الإضراب العام في السادس من نيسان 2008، وهي الدعوة التي تأسست على إثرها حركة شباب 6 أبريل، والتي كان لها دورٌ واضح في الحراك السياسي في مصر وقتها.

الحساسية الواضحة للشارع المصري تجاه التحولات في المنصات الإعلامية جعلت السيطرةَ على وسائل الإعلام وتوجيهها مقدمةً ضرورية للسيطرة على الشارع.

من هنا، جرى تحول واسع في وسائل الإعلام في أعقاب «ثورة يناير» التي بدا دور الإعلام في دعمها واضحاً. فظهرت إلى الوجود وسائل إعلام جديدة، سواء قنوات فضائية أو صحف أو مواقع إلكترونية، وبدأ تدفق المال لصناعة الإعلام بشكل غير معتاد على السوق المصرية.

والملاحظ أن وسائل الإعلام الجديدة لم تبد موقفا معاديا للثورة في المراحل الأولى، بل على العكس انتهجت سياسة الاستيعاب عبر رفع شعارات الثورة واستضافة رموزها، سواء كضيوف على البرامج أو كمذيعين، أو ككتاب وصحافيين في الصحف.

والملاحظة الثانية التي يمكن اعتبارها مؤثرة للغاية في تطور وسائل الإعلام، هي أن التدفق المالي على صناعة الإعلام تبدّى في سيولة نقدية سريعة، على بنية إعلامية محدودة. فرؤوس الأموال التي هدفت إلى فتح وتشغيل أعداد كبيرة من الفضائيات والجرائد والمواقع، في وقت قصير، لم تسع إلى تطوير الكوادر الإعلامية اللازمة لتشغيل وسائل الإعلام تلك، ولم تسع إلى تدعيم بنية تحتية متينة لتطوير المهنة، مثل المعاهد والكليات ومراكز التدريب. وبدلاً من تطوير كوادر مهنية وفنية، سعت وسائل الإعلام للتسابق على الكوادر الموجودة عبر رفع الأجور، لمعدلات مبالغ فيها أحياناً. ساهم ذلك في جعل التوسع الإعلامي الذي حدث وقتها كمياً فقط، دون تطور حقيقي في المضمون ولا في المستوى، بل على العكس، صاحبَ التوسع تدن في المضمون الإعلامي ومستواه.

إهدار المضمون والمستوى الإعلامي كان خطوةً هامة على طريق السيطرة على الإعلام، فمع هيمنة المستوى المتواضع لوسائل الإعلام وتراجع وسائل الإعلام الأكثر جدية ورصانة، أصبحت السيطرة على الإعلام أكثر سهولة.

التحول الثاني الذي ظهر في وسائل الإعلام المصرية كان عقب الثالث من يوليو 2013. فبعد إطاحة محمد مرسي، الرئيس «الإخواني»، وعودة أجهزة الدولة للسيطرة، ظهرت حالة «الاصطفاف الوطني» ضد الإرهاب، وما أسمته الدولة الأخطار الخارجية والداخلية. وكانت هذه بداية محو أي أثر للتنوع والاختلاف في وسائل الإعلام، بحيث أصبح من المعتاد أن تصدر صحف الصباح بالعنوان نفسه، أو أن تحمل في الوقت ذاته تقريراً موحداً عن كشف تفاصيل مؤامرة أجهزة استخبارات دول عدة على مصر بهدف «إسقاطها» دون وجود أي فارق بين التقرير في أي من الصحف المنشور فيها.

ولكن الأهم أن ذلك صاحبه توقف تدفق الأموال لسوق الإعلام، ثم بداية انسحابها وانكماش وسائل الإعلام، مع وضع الإعلام المصري في مواجهة مباشرة مع الأزمة الاقتصادية العميقة.

فعلى الرغم من تراجع الاقتصاد عموماً، وضعف تدفق الاستثمارات في شرايين الاقتصاد المصري، تدفقت الأموال على وسائل الإعلام بسخاء. وعندما بدأ المال السياسي في الانسحاب من الإعلام، بدأت القنوات والصحف في الانكماش، وأغلق بعضها بالفعل نتيجة الأزمة الاقتصادية التي حرمت وسائل إعلام من الإعلانات، وبدأت الأزمة التي عانى منها الإعلام في شقّها السياسي قبل سنوات في التحول لشقها الاقتصادي، طبعاً مع استمرار مجموعة من وسائل الإعلام، سواء فضائيات أو جرائد، بعيداً عن تقلبات السوق والأزمة الاقتصادية، وهي الصحف والفضائيات الأكثر ارتباطاً بالمصالح السياسية للسلطة.

تبدو أزمة وسائل الإعلام المصرية بأنواعها مستحكمة ما بين الهيمنة السياسية والأزمة الاقتصادية، ولكن في ظل تلك الأزمة يبدو نمطاً جديداً من الإعلام يشقّ طريقه ببطء ولكن بثبات.

فمع طرد وسائل الإعلام التقليدية للكفاءات الإعلامية، والتي ما كانت لتقبل بأي حال السير وراء مقولات الاصطفاف وإنتاج مضمون إعلامي موجه من قبل أجهزة الدولة، بدأت في الظهور تجارب إعلامية، وإن كانت محدودة، إلا أن لها دلالتها. فمع التطور التكنولوجي بدأت المواقع الصحافية على الإنترنت تظهر كوسيلة جديدة للإعلام تبدو قابلة للتطور لتصبح وسيلة رئيسية.

ومع ظهور مواقع صحافية مثل «أصوات مصرية» و «مدى مصر» و «بوابة يناير» و «المنصة»، أصبحت الهيمنة المطلقة على وسائل الإعلام غايةً في الصعوبة، خاصة أن بعضاً من تلك المواقع تمكنت من إثبات كفاءتها المهنية رغم إمكانياتها المحدودة، بل تفوقت في الكثير من الأحوال على الصحف الكبيرة والقنوات الفضائية التي ينفق عليها بسخاء.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل