المحتوى الرئيسى

خيوط العنكبوت (ترويض السلطة1) | المصري اليوم

09/22 22:49

تعرفون أن الإمبراطور الروماني جايوس، المشهور تاريخيا وأدبيا باسم «كاليجولا» كان ولايزال أشهر الطغاة المتوحشين في التاريخ الإنساني، وهذه معلومة لا تستوقفني كثيرا من كثرة شيوعها وتكرارها، الذي استوقفني بشدة هو حالة جايوس قبل تولي السلطة، فالكتابات اليسيرة التي وصلتنا عن طفولته وصباه تقول إنه كان وديعاً، وطيباً، ومتعاوناً مع غيره حتى من صغار الجند، بل إن لقبه (كاليجولا) يعتبر في حد ذاته دليلا على تبسطه مع الجنود، فقد أطلقوا عليه هذا اللقب على سبيل التحبب والسخرية من ارتدائه (كطفل صغير) لحذاء الجنود الضخم الذي كان معروفا باسم (كاليجولا)، والغريب أن الشاب الوديع عندما تولى حكم روما لم يشعر بإهانة من الاسم الذي يعني الحذاء، واحتفظ به راضيا ومتصالحا، لكنه لم يستطع أن يحتفظ بذاته الوديعة.. فقد أكلتها السلطة، وتركت بقايا الإنسان الطيب القديم في صورة وحش لا يعرف الرحمة.!

ما الذي غير كاليجولا؟، وهل كان من الأصل وحشاً يتخفى خلف طيبته؟، أم أنه كان طيباً بالفعل، لكن السلطة دفعته لهذا التحول الغريب؟

الآراء تتباين حول ذلك، فهناك من يقول إن الوحش كامن داخل الإنسان منذ البداية، وإن الظروف تكشف عنه فقط، بينما يرى آخرون أن السلطة بكل مغرياتها وما تمنحه للإنسان من قوة وتحكم في مصائر الآخرين تؤدي بالفعل إلى تغيرات هائلة، ليس في سلوك الإنسان الظاهري وفقط، ولكن في كيمياء جسده، وإفرازات الهرمونات التي تتحكم في المخ وطريقة التفكير، وبالتالي تصبح السلطة في حد ذاتها جرثومة، أو مرضا يهدد حياة كل من يصاب بها، وليس لديه جهاز مناعى قوى يتغلب عليها، وليس كاليجولا فقط، وبالتالي لابد من البحث عن سبل لجماية الشخص من مخاطر السلطة قبل أن يتقلدها، وأثناء ممارسته لها.

قلت في الفقرة السابقة إن طغيان «كاليجولا» ليس حالة فردية، وإن تحوله لم يكن قاصرا على زمان ومكان معين، لذلك تعامل المفكرون والأدباء مع ظاهرة تحولات السلطة، كما لو أنها سحر يسرق عقل من يصاب بها، ويلتهم حياته وأفكاره القديمة لحساب حياة وأفكار قد تكون نقيضة تماما، ففي القرن التاسع عشر كتب الفرنسي جول رومان مسرحيته الشهيرة «الطاغية» le dictateur وأظن أن موضوعها تكرر في كثير من الأعمال الدرامية التي تناولت علاقة الإنسان بالسلطة، ولعلنا نذكر في مصر رواية «شيء من الخوف» التي تحولت إلى فيلم سينمائي قام فيه محمود مرسي بدور «عتريس» طاغية الدهاشنة الذي كان طفلا رقيقاً، تحول إلى وحش عندما رأى مقتل جده، وتذكر نصيحته المخيفة: كن وحشاً حتى لا تأكلك الديابة، فتحول عتريس بالفعل إلى وحش بعدما تولى حكم القرية الصغيرة.

مسرحية رومان، تم تمصيرها واقتباسها في أكثر من فيلم مصري دون الإعلان عن الأصل، ويحضرني منها «خيوط العنكبوت» الذي أخرجه عبداللطيف زكي عن قصة لنبيل راغب كتب لها السيناريو والحوار مصطفى محرم، وتدور حول المهندس خالد الذي تزعم زملاءه في الشركة لمواجهة فساد الإدارة القديمة، حتى نجحوا في إقالتها وتولى خالد رئاسة مجلس الإدارة، لكنه سقط في «خيوط العنكبوت» التي تمثلها السلطة، وشلة المصالح والمنتفعين التي تجتذب الرئيس الجديد وتصيبه بالأمراض التي كان يحاربها، والقصة تكاد تكون تمصيرا مسطحا لمسرحية رومان التي تتحدث عن ثورة ضد فساد الحكومة في العصر الملكي، فيأمر الملك الفرنسي بتعيين قائد الثورة دينيس رئيسا للوزراء، لكنه يتحول إلى مسخ أسوأ وأبشع من السلطة التي ثار ضدها مع رفاقه، وبينهم «فيريول» الذي يتحول إلى معارض قوي لرفيقه القديم، وهكذا تتواصل الدائرة الجهنمية التي تأكل فيها السلطة أخلاق ومبادئ كل من يقع في براثنها، دون تحصين كاف، ومن غير إرادة قوية تحميه.

لكن كيف يكون التحصين؟، وماهي الإرادة التي يمكن أن تحمي المسؤول من هيمنة وحش السلطة، وتحوله إلى مجرد خادم يخون أفكاره الثورية القديمة والسقوط في الدائرة الجهنمية، حتى لو لم يكن يدري أنه سقط؟!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل