المحتوى الرئيسى

"فيلم أميركي طويل" بين الأمس واليوم: العصفورية اللبنانية باقية وتتمدد

09/22 17:16

في إحدى ليالي العام 1980، أسدلت ستارة مسرح البيكاديلي في بيروت على موسيقى The Magnificent Sevenالتي كانت مستخدمة في الثمانينيات لإعلانات سجائر "مارلبورو".

اختار زياد الرحباني أن يختم مسرحية "فيلم أميركي طويل" بهذه الموسيقى بالذات، واضعاً إياها في سياق سياسي محدد، بعدما فضحت شخصية رشيد في العمل، أجواء التكاذب الوطني، وأبى عقله الباطن إلا أن ينتفض على عبارات من قبيل "كلنا إخوة" و"طول عمرنا إسلام ومسيحية عايشين مع بعض"، بصرخة مدوّية.

"تجري أحداث هذه المسرحية في شهر تشرين أول 1980، أو تشرين أول 1979، أو تشرين أول 1978، حيث لم يتغيّر إجمالاً الوضع السياسي النفسي العام". تلك كانت العبارة التعريفية الأولى لمسرحية "فيلم أميركي طويل" التي عرضت في مرحلة هدوء نسبي شهدتها المناطق اللبنانية، على أثر "هدنة"، فرضتها ظروف داخلية وإقليمية، لكنها لم تصمد طويلاً.

خلال الشهر المقبل، أي في تشرين الأول 2016، ستستعيد بيروت "فيلم أميركي طويل"، ولكن هذه المرّة في دور السينما، وليس على خشبة المسرح، وذلك بعد تجربة ناجحة قامت بها شركة "أم ميديا" للإنتاج، في كانون الثاني الماضي، حين أعادت عرض مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" سينمائياً.

شارك غردللمرة الأولى منذ عرضها في الثمانينيات، تعرض مسرحية "فيلم أميركي طويل" لزياد الرحباني في السينما الشهر المقبل

شارك غردشرحت المسرحية الواقع السياسي المعقد في لبنان، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، واستشرفت فوضى العقود التالية

على غرار مسرحية "بالنسبة لبكرا شو"، استدعى تجهيز "فيلم أميركي طويل" للعرض السينمائي جهداً تقنياً جباراً، جرت من خلاله عملية ترميم للقطات من المسرحيتين، صوّرتها شقيقة زياد، المخرجة الراحلة ليال الرحباني، بكاميرا سينما صغيرة، وذلك بعد عملية "مونتاج" أولية قامت بها الشقيقة الثانية المخرجة ريما الرحباني. فيما تولى رالف كسلر الإشراف على عملية تنقية الصوت عبر برنامج معقّد طوّره فريق بحثي ألماني من "جامعة هلموت شميت" في هامبورغ.

لم يكن غريباً النجاح الذي حققته مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" سينمائياً قبل أشهر، ولا شك بأن "فيلم أميركي طويل" بنسخته السينمائية سيحقّق نجاحاً أكبر. فالجمهور اللبناني خصوصاً، والعربي عموماً، ما زال قادراً على التفاعل، بشكل يومي، مع هذين العملين المسرحيين المسجّلين صوتياً، والحاضرين، كغيرهما من مسرحيات زياد الرحباني، على أثير محطات الإذاعة اللبنانية، بوتيرة شبه يومية.

هذا التفاعل بين الجمهور المستمع/ المشاهد وبين أعمال زياد الرحباني لم تؤثر فيه لا المواقف السياسية لابن العائلة الرحبانية، والتي أثارت حنق البعض، في ظل حالة الاستقطاب السائدة لبنانياً وعربياً، ولا رداءة الصورة في بعض مشاهد "بالنسبة لبكرا شو" في نسختها السينمائية على سبيل المثال.

ولعل السرّ الأساسي في تلك العلاقة التفاعلية بين زياد الرحباني والجمهور، يكمن في قدرته على مخاطبة الناس بلغتهم اليومية، والنطق بلسانهم في نقد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقديم الواقع كما هو، لا بل تعريته من كل الجماليات التي يحفل بها المسرح الرحباني التقليدي الذي أنشأ وطناً غير موجود سوى في أحلام اللبنانيين.

جعلت واقعية زياد الرحباني من "لبنان الجديد" مجرّد "لحم بعجين"، غابت فيه الأغاني الرحبانية الرومانسية مثل "نحنا والقمر جيران"، و"طلّوا الصيادين"، و"جبلية النسمة"، وحلّت مكانها أغانٍ أكثر التصاقاً بالواقع اليومي، مثل "قوم فوت نام"، و"راجعة بإذن الله"، و"يا زمان الطائفية"، إضافةً إلى مقدّمة موسيقية تحاكي أغاني أم كلثوم (التي ظلت توحد الإذاعات اللبنانية أيام الحرب الأهلية شأنها شأن أغنيات فيروز )، ويليها ما يشبه مطلع أغنية تؤديها منى مرعشلي، بأربع كلمات فقط هي: "ده فيلم أميركي طويل"... وأما خرير الشلال وزقزقة العصافير في "الضيعة" الرحبانية التقليدية، فحلّت مكانهما "الأصوات التي يحدثها مرور الطيران المدني" في أجواء الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يقع المستشفى الذي تدور فيه أحداث المسرحية.

ثمة إجماع على أن مسرحية "فيلم أميركي طويل" تمثل واحدة من أهم الأعمال المسرحية التي أظهرت عبقرية زياد الرحباني، وعكست تحوّلاً كبيراً في مقاربة زياد الرحباني للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مقارنة بمسرحيتي "بالنسبة لبكرا شو" و"نزل السرور".

أضف إلى ذلك، أن مسرحية "فيلم أميركي طويل" كرّست الطلاق النهائي بين مسرح الرحابنة الأهل، وبين مسرح زياد الرحباني - أو قل الجناح اليساري في العائلة الرحبانية بحسب توصيف جوزيف سماحة في مقال نشره يوم عُرضت المسرحية في تشرين الأول العام 1980 - تماماً كما حدث الطلاق بين "الوطن الحلم" و"الوطن العصفورية" بكل نوباته العصبية منذ الاستقلال... وحتى اليوم.

فرادة زياد الرحباني في "فيلم أميركي طويل" تكمن في شرحه للواقع اللبناني كما هو، بشكل مباشر، ومن دون "روتوش"، فلا وحدة وطنية تنشأ بوعي مجتمعي، كما هي الحال في "جسر القمر"، وانما بتسطيلة "الحشيشة"... أمّا الخطر المحدق بالوطن، فلا يكمن في "الغريب" المجهول ("فاتك المتسلط"، أو "هَولو" على سبيل المثال) وإنما في "الأهالي" أنفسهم، أي في ذلك "الشعب اللي عم يستغل الزعماء المعتّرين"... وأما السلام المزعوم، فما هو سوى سلام مصطنع، فُرض على اللبنانيين بعلاج الصدمات كهربائية، ما جعل الكل ينطق بما ليس مقتنعاً به، تعبيراً عن تكاذب وطني ما زال مستمراً.

انطلاقاً من ذلك، لم يعد المواطن مسجداً بشخصيات مثل "زاد الخير" و"زيّون" و"غربة" أو "سبع ونعّوم" و"المختار" و"راجح"، بل صار "رشيد" (زياد الرحباني) المعبّر عن جيل شاب انخرط في القتال على المحاور خلال الحرب الأهلية أملاً بـ"لبنان الجديد"، الذي تحوّل "بين ليلة وضواحيها" إلى "لحم بعجين". وصار أيضاً مثل "عبد الأمير" (بطرس فرح) أستاذ علم المنطق الذي يبحث عن "المؤامرة" من دون جدوى، و"نزار" (محمد كلش) أحد كوادر "الحركة الوطنية" الذي فقد القدرة على التحليل الأيديولوجية، و"إدوار" (زياد أبو عبس) المسيحي المقيم بين "المحمودات" في "المنطقة الغربية"، وهاني (سامي حوّاط) أحد ضحايا الممارسات الميليشياوية، وقاسم (جوزيف أبي حيدر) المصاب بهلع من الوضع الأمني، و"زافين" (غازاروس الطونيان) المواطن الضائع بين هويته اللبنانية وأصله الأرمني، إضافة إلى "أبو ليلى" (جوزيف صقر) و"عمر" (توفيق فروخ) اللذين أدمنا على المخدرات هرباً من عبثية الحرب الأهلية، وإذا بالعلاج من الإدمان يأتي بنتائج عكسية عليهما، فصارا "أكثر وعياً بالحالة"!

يبقى أن أهم ما يميّز "فيلم أميركي طويل" تشريحها الواقع السياسي المعقد في لبنان، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعدها، لا بل استشرافها للعقود القادمة، من خلال مقاربة سياسية-فنية تفوق في توقعاتها السياسية سيل التحليلات النظرية في مرحلة الحرب الأهلية وما بعدها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل