المحتوى الرئيسى

فلسفة الحبّ عند شيوخ داعش ، ابن تيمية وابن القيّم

09/22 13:42

بعد مُتابعتي لمؤتمر الشيشان الذي عُقد لتمييز أهل السنة عن أهل السنة ، ولزيادة الفرقة بين المسلمين ، و لتشتيت الإنتباه عن مسائل حسّاسة في الوطن العربي والإسلامي كأزمة سوريا أو اليمن ، رأيت أن المؤتمر برمته كان قدحاً وذماً في شخص شيخ الإسلام ابن تيمية ، أو كتبه ، وفكره ، وفي تلميذه ابن القيّم .

كما صوّره مشايخ المؤتمر ومن حضروه كلّهم بلا استثناء أنه الرجل الفتنة والضال المضل الذي كان سبباً في ركاد الأمّة وتأخرها ، بل أكاد أجزم أن بعضاً منهم قد يرى أن ابن تيمية هو سبب المشاكل البيئية كخرم الأوزون مثلاً .

وما هذه الهجمة الشرسة على ابن تيمية بسبب عقيدته ، و لا بسبب فكره أو توجهه أو دراساته ، ولا بسبب كتبه أو تلاميذه أو غيرهم ، فإنّه قد ألّف كتاباً يجمع المسلمين على اختلاف أفكارهم ، وذكر في كتابه أن الأشاعرة وغيرهم يدخلون في عموم المسلمين ، درءاً منه لمفسدة الإختلاف وفُرقة عامّة أهل الإسلام ، وكتب في ذلك صفحات وكلمات لم يقرأها أو تغاضى عنها من حضر المؤتمر ، ودلّسوا بما قالوا على من لا يعرف ومن لم يعرف ، وكان ابن تيمية يرى أن هذا هو السبيل لاجتماع الأمّة ، وأن هذا هو منهج أهل السنّة والجماعة لتوحيدها .

ولكن كانت هذه الهجمة الشرسة دائماً عليه وعلى تلميذه ابن القيم ، بسبب مواقفهم من عدم الركون للظالمين وجهادهم للمعتدين ، و بسبب ما كان من قوتهم في الصدع بالحق و قلب موازين الباطل والظلم أينما كان ، و بسبب ما يرونه واجباً في اجتماع المسلمين ، وأنه يجب عليهم جميعاً أن يقفوا موقف رجل واحد تجاه أعدائهم أينما كانوا ، في الداخل أو الخارج .

وأنا بعد هذه المقدمة أوقن تماماً أن كثيراً من المعاصرين أو حتى ممن حضروا المؤتمر أو من عامّة الناس لم يقرئوا لابن تيمية أو لابن القيّم ، ولم يعرفونهم إلا من خلال ما يُشاع عنهم أنهم المنفّرين أو المتشددين ، وبسبب ما يسمعونه في وسائل الإعلام من استدلالات داعش والجماعات الجهادية بأقوالهم وكتبهم .

ولكن الناظر بعين البصيرة والحق ، يعلم أنهم ما تركوا فناً إلا وتكلّموا فيه ، حتى أن ابن القيم يذكر عن شيخه ابن تيمية أنه قرأ كتب أهل الكلام ـ الفلاسفة ـ للرد عليهم في ما ذكروه بالعقل والحجة والبرهان والدليل ، فما كان ابن تيمية في صومعته حاملاً قرآنه وسيفه فقط ، بل كان بحر العلم الذي كتب في كل فنّ ومذهب ، مع حمله للسيف لمقارعة أعداء الأمّة ، و فهمه وتعليمه للأمة الكتاب والسنّة .

ومن جميل ما كان لابن تيمية وابن القيم أنهم تكلموا في كل فنّ و فلسفة ، وفي كل مدرسة ورأي ، وألّفوا وكتبوا ونقّحوا في هذه الفنون ، ومن هذه الفنون التي تكلموا فيها هو فلسفة الحبّ ، فماذا قال ابن تيمية المتشدد ، وابن القيّم المتشدّق في الحب وفلسفته ؟!

ولستُ هنا مدافعاً عن شيخ الإسلام ولا تلميذه ، ولا ذكر جانب دون آخر ، لكني رأيت أن كثيرين قد أظهروا جوانب عدّة لهما ، ولم يذكروا جانب روحانياً يتعلق بالقلب ، وبأمور الحياة اليومية ، ومآلات النفس البشرية ، وهو الحبّ .

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فلسفة العشق ، وتعلق قلب الرجل بمن يُحب من النساء ، أن الله خلق هذا الحب وهذه المودة لهذا الشيء ، أن يضعف قلب الرجل أمام من يعشق من النساء ، وأن تسكن المرأة لمن تحب من الرجال .

قال ابن تيمية " الرجل اذا تعلق قلبه ، يبقى قلبه أسيرا لها ، تحكم فيه وتتصرف بما تريد ، وهو فى الظاهر سيدها ، لأنه زوجها ، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ، لا سيما إذا دَرَت بفقره إليها ، وعشقه لها ، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه ، بل أعظم ، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن " .

وليس في الكلام ما يذم أو يمدح ، وإنما فيه شرح لحالة القلب العاشق الذي لن يستطيع التخلص من هذا الحب ، أو نزع فتيل العشق وانكاره وهو فيه قد وقع .

و لمّح رحمه الله إلى أن العاشق إذا امتنع عن معشوقه أصبح مريضاً نفسياً ومعنوياً ، وأصبح يُعاني الألم والضعف والنحول فقال " والعشق مرض نفساني ، وإذا قوي أثَّر فى البدن ، فصار مرضا فى الجسم : إما من أمراض الدماغ ، ولهذا قيل فيه هو مرض وسواسي ، وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك " ا.هـ

هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، الداعشي المتشدد ، الذي ثار العالم عليه وعلى فكره ، وقد مات رحمه الله منذ مئات السنين .

لماذا تكّلم ابن تيمية وابن القيّم في الحبّ ؟ وهل كان وضع أهل الإسلام وقتها يسمح لهم أن يتحدثوا في غير الجهاد والقتال ومقارعة أعداء الملّة ؟!

تكلموا في الحبّ وفلسفته لأنهم أدركوا كمّاً من قصص للحب ذهبت أدراج الرياح ولم يذكرها التاريخ أو تذكرها الأيّام ، لأن الحب عيب في حق الرجل ويجعله تافهاً ، وإظهاره منقصة له ، ولأن تصريح المرأة بالحبّ يجعلها من زمرة عديمي الخلق والحياء .

تكلّموا في الحب وفنّه لأنهم علموا أُناساً تعلّقت قلوب بعضهم ببعض ، فما كان من أهل الشاب أو أهل الفتاة إلا أن يقفوا بشدّة وحزم في وجه هذا التعلّق الفطري ، وقطع أواصر الوصل بينهما ، حتى أضحت الفتاة زوجة لرجل آخر وهي تذكر غيره ، والشاب زوجاً لامرأة أخرى وهو يذكر غيرها ، وأصبحت بيوتات المسلمين ناراً وألماً .

تكلّموا في الحب و نغمه لأنهم فطنوا لحالات الطلاق التي هي في ازدياد كلّ يوم وساعة ، في مجتمعاتنا العربية والشرقية ، والسبب الأول فيها أن الرجل لا يحب زوجته ، وأنها أُجبرت على الزواج منه وهي لا تريدع ، وإن لم يطلّق الرجل تخلعه المرأة .

تكلّموا فيه لأن دينهم أمرهم بهـذا ، ولأنهم عرفوا مسالك الحب والعشق لقلب الانسان كائناً من كان ، فقد يسأل الأب ابنه عن الزواج من فلانة ، فلا يرفضها خجلاً من أبيه ، وهو في قلبه امرأة أخرى قد تعلّق بها ، وأصبح يرتشف حبها ارتشافاً ليروي ظمأه من حُبّها .

وكم من فتاة سكتت عن من تقدم لها ، خشية أن يُقال عنها أنها قليلة الأدب ، وهي لا تجد غير حبيبها من يحتوي ذراتها ويُساكن قلبها ويُزاحم عقلها وتفكيرها .

والناظر لحال السير والأعراف ، وكلام الناس و قصص الشعراء ، يجد أن الحب وإظهاره ليس منقصة ولا عيباً ، وما كان من عالم أو فقيه أو محدث إلا وتكلّم في الحب ، بل إن رسول الله قد ذكره في مواضع عدّة ، يذكر حُبّه للناس قاطبة لعائشة و خديجه ، ويحث المتحابين على الزواج ، لا التفريق بينهم .

قال رسول الرحمة " لم يُر للمتحابين مثل النكاح "

أي أن الرجل إذا نظر للمرأة وأحبّها ، فلا علاج له إلا أن يتزوج بها .

فما قال رسول الله عيب عليكم الحب ، ولا فسّر العلماء الحديث على أنه خارج عن الحياء والعرف ، بل أكدّ على وتأكد لنا أن الحبّ إذا تملّك من قلب إنسان ، رجل كان أو امرأة ، لا سبيل له سوى الزواج ، والزواج آكد إعلان للحب و العشق .

وقد صرّح ابن القيّم تلميذ شيخ الإسلام ، تصريحاً في الحب و مآلاته ، وفي العشق وطرقه وحال أصحابه ، حيث قال " إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه ، كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له ، فهذا لا يلام على ذلك ، وكذلك إذا نظر نظرة فجاءة ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره "

فجعل رحمه الله العشق المتولد عن النظر لامرأة ، من غير قصد و بدون اختياره ، أمراً لا يُعاقب عليه الإنسان ، فإنه لا طاقة له على قلبه كطاقته على بدنه وتحريك عقله وتحرير فكره .

وما كان ممن عرف العشق ، وفهم الحب إلا أن يكتب في معناه كلاماً جميلاً ، و أشعارً وتاريخاً وأحداثاً وسيراً ، ولهذا عرّف ابن القيم الحب فقال " هو امتزاج الروح بالروح لما بينهما من التناسب والتشاكل ، فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعضه وقد تبلغ المحبة بينهما حتى يتألم احدهما بتألم الآخر "

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل