المحتوى الرئيسى

المصرائيليات "1"

09/22 13:42

أن يكون لكل شعب ثقافته وعاداته وتقاليده الخاصة والمميزة له، فذاك شيء طبيعي ومفهوم، وعلى مدار التاريخ تمايزت الأمم بالثقافات وتعددت التقاليد والعادات، أما أن يختصر شعبٌ ما ثقافته في بضع تخاريف يرددها ليل نهار، دون سندٍ أو دليل واضح، فذاك شيء غير طبيعي وغير مفهوم إلا في مصر طبعاً.

فلمصر -دون غيرها- ثقافةٌ شعبيةٌ خاصة جعلت منها حاضنة اللامعقول، ووعاء اللامنطق، هنا في مصر ينتحر المنطق ويصبح اللامعقول حقيقةً راسخة تتناقلها الأجيال، ويبدو الحديث بالمنطق ضرباً من ضروب الجنون.

وفي هذه السلسلة نرصد بعض الأقاويل والأساطير الشعبية المصرية التي يرددها العامة والخاصة، المثقف والواعي قبل غيره، دون دليل ثابت أو واضح عن مدى صحتها، وعن اختيارنا لعنوان السلسلة الذي قد يبدو غريباً عند البعض، فهي كلمة على سياق "الإسرائيليات"، وهي تلك الأحاديث والقصص الموضوعة من التوراة والإنجيل، كما أن لفظ الإسرائيليات يُشتهر بين عامة الناس بالقصص الزائفة الموضوعة في التاريخ الإسلامي، فلم نجد وصفاً لتلك القصص والأساطير الزائفة التي يرددها المصريون أفضل من " المصرائيليات"، ونبدأ سلسلتنا بتلك المقولة الخالدة.

ما الذي يجعل من دولة لا تتعدى مساحتها المليون كم مربع أن تكون أُمّاً لهذه الدنيا؟ وما الشيء الذي يميز تلك المساحة الصغيرة لتكون أساساً لـ149مليون كم مربع هي إجمالي مساحة اليابسة في العالم؟

لماذا لا تكون روسيا مثلاً وهي أكبر دول العالم مساحة هي أم الدنيا؟ لماذا ليست الولايات المتحدة أو كندا أو الصين وهي دول تتصدر قائمة الدول الأكبر مساحة بعد روسيا؟

وإن كان الموقع هو من ميّزها، وهي دولة مميزة فعلاً بموقعها، لكنها ليست الدولة الوحيدة ذات الموقع الفريد في العالم، فإن كانت مصر تتحكم في قناة السويس فغيرنا اليمن يتحكم في مضيق باب المندب، وإيران تتحكم في مضيق هرمز، وإسبانيا التي تتحكم في مضيق جبل طارق وكلها مضايق مهمة، وجمهورية بنما التي تربط بين الأميركيتين الشمالية والجنوبية عن طريق قناة بنما، التي تُعد من أعظم الإنجازات الهندسية في العالم.

وإن كان وجود مصر في إفريقيا وامتدادها الآسيوي شيئاً مميزاً باعتبارها دولة عابرة للقارات، فعلى جانبٍ آخر تقع روسيا وتركيا في قارتي آسيا وأوروبا، فلماذا لم نسمع أياً من أبناء تلك الدول ذات المواقع المميزة يرددون بأن دولتهم" أم الدنيا"

يقول قائل إن العبرة ليست بالمساحة ولا الموقع وإنما التاريخ، فمصر أقدم حضارة عرفتها البشرية.

يظن كثيرٌ من المصريين أن الإنسان المصري القديم هو أول من عرف الحضارة، وأنشأ المدن وهو قول أنكره علماء التاريخ، فلقد اتفق علماء التاريخ على أن الحضارة السومرية هي أقدم حضارة عرفها العالم، وهي حضارة قامت ما بين نهري دجلة والفرات قبل ما يقارب الـ9 آلاف عام، ثم تبعتها حضارة شبه جزيرة الهند والحضارة المصرية القديمة.. لماذا لا تكون العراق إذاً من الناحية التاريخية هي " أم الدنيا"؟!

يردُ آخر بأن لنا فضلاً في الإسلام استحقت به دولتنا أن تكون للدنيا أُمّاً، أيكون فضلنا في الإسلام أكبر من مهد النبوة، وموطن الرسالة؟!

وحينما انتهى دور أرض الحجاز التاريخي في خلافة الإسلام وحكمه بمقتل عثمان بن عفان، فإلى أين آلت الخلافة بعد ذلك، استقرت الخلافات الإسلامية بعد مقتل عثمان في مدنٍ كثيرة لم يكن من ضمنها مصر، فلقد انتقلت الخلافة من المدينة إلى:

الكوفة في عهد علي بن أبي طالب والحسن بن علي.

ثم انتهاء بالخلافة العثمانية في تركيا.

فلماذا لم نسمع شعوباً حاطت الخلافة الإسلامية واحتضنتها ترى في دولها" أُماً الدنيا"؟

ثم كم قائداً إسلامياً كان مصري الجنسية؟ وكم خليفة في تاريخ الخلافات الإسلامية كان مصرياً؟ وكم مصرياً صاحب الرسول في حياته؟ وكم مصرياً قاد الإسلام ودولته طوال تاريخه؟!

ينتقل المطاف بعدها لقصة دينية يرددها العامة عن سبب تلك التسمية، فتروي القصة أن السبب هي هاجر، زوجة نبي الله إبراهيم، عليه السلام، فكانت مصرية وولدت لنبي الله إبراهيم ولده إسماعيل، عليه السلام، وإلى أرض الحجاز حيث تركهما إبراهيم، فكانت معجزة ماء زمزم وعمار الجزيرة العربية بالقبائل.

رغم ذيوع هذا القول فإنه قول غير منطقي، فبدايةً، هل القبائل العربية كلها من نسل إسماعيل عليه السلام؟ أم أن السيدة هاجر وابنها نزلا بها ثم توافد الناس وعمرت أرض الحجاز؟

ثم هب أن إسماعيل كان أساس هذه المنطقة بأكملها، فهل الدنيا التي نقصدها بقولنا "أم الدنيا "هي الجزيرة العربية فقط؟

وهل تلك القصة تحل ذلك اللغز الذي يسأل عنه الكثيرون بأن تكون العراق" أبو الدنيا" باعتبار أن إبراهيم عليه السلام كان من بابل في العراق وهو زوج هاجر التي أطلق علينا كما يزعمون لفظ "أم الدنيا"؟

أخيراً، ليس الهدف من تلك السلسلة التي بدأناها هو التشويه أو التقليل من حجم مصر، ولكنها محاولة جادة لسرد حقائق تاريخية مثبتة، ولا مشكلة عندي أن تطلق وزارة السياحة المصرية هذه العبارة وترددها ليل نهار كنوعٍ من الترويج للسياحة وجلب السياح، لكن أن نتعامل مع تلك المقولة كحقيقة ثابتة راسخة لا جدال فيها، وأن نتعالى على الآخرين ظناً منّا أن الله اصطفانا من دونهم، وأن نغرق في الأوهام دون دراية بما يجري حولنا فهو مُراد الطغاة ومُنى المستبدين.

فقديماً قالوا:" رحم الله امرأً عرف قدر نفسه".

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل