المحتوى الرئيسى

د. نسيم الخورى يكتب: الحضارة العربية المعاصرة بين كان وأخواتها | المصري اليوم

09/21 01:19

أفكّر بتعريف حروب العرب وكوارثهم المستوردة. تلك حروب لا هوية لها. هى ليست بالحروب الكبرى أو التقليدية المعلنة، ولا هى بالحروب الباردة معروفة الأسباب والأحداث والنتائج. هى ليست حروباً أهلية أو طائفية محضة أو حروباً عالمية صغيرة بنسخ متعددة فوق أرضنا، وقد ذقنا بعضها فى لبنان، وسماها غسّان توينى لبنانياً «حروب الآخرين على أرض لبنان». إنّها شىء من هذا كلّه مزداناً بالفوضى الشاملة التى تمحو التواريخ، وترهّل الحكمة، وتشوّه الأديان، إلى حدود القول بأنّ العالم، بغربه وشرقه وبأنساق العيش فيه وأطماعه، صار مشغولاً بهندسة هويتنا ومستقبلنا، ملقياً كوارث الدنيا علينا، حيث لا استقرار بعدما شلّع أبوابنا وصرنا فى مهب الرياح العاتية من جهات الدنيا.

تلك حروب يبرز فيها تهديم العواصم العربيّة التى كانت شعوبها تعتدّ بجذورها التاريخية الضاربة فى عراقة التاريخ القديم وتنهض حضارة العواصم الحديثة المتألّقة الفاتنة التى تسبق جذورها ومظاهرها العمرانية حركة المستقبل والعالم، حيث لا حدود لها ولا توقّف، لا يحيّرها سوى تكالب الدنيا على تلويث ماضيها الدينى والإنسانى.

وأفكّر بضخامة الاستبداد والحقد العالمى اللاحق بالعرب على المستويات كلّها. واقعياً تنكشف مرارات وتعقيدات المناخ العام بعدما صعب تفكيكه فتشلّع، أو إعادة تلحيمه وجمعه إلاّ بالعيش مع المزيد من أسوأ مراحل الويلات والحروب والتلطVيخ والتشويه. ويبدو العرب مشتّتى العمران والأفكار والجماعات وفى الأشكال والمضامين يستحيل عليهم إعادة صيغة الجمع، مع أنّ إشراقات التاريخ العربى والإسلامى ليست بهذه الصور البشعة التى تظهر؟.

سؤال أصعب: هل كان العرب حضارة لا حدود لها وصاروا بفعل الاستبداد متعدّد الهويات والأساليب عربين وأكثر؟

الجواب بملاحظة لغوية طريفة ذات مدلول حضارى قفزت أمامى حول هذا الفعل الماضى الناقص أعنى «كان»:

تنتسب كان وأخواتها: أمسى، أصبح، أضحى، صار، ما زال، ما برح، ما انفك... إلخ إلى رحمٍ لغوى واحد، أو ما يعرف بالعربيّة بالأفعال الماضية الناقصة. وبالمقاربة الأفقيّة البسيطة، يمكن السؤال عن معنى الفعل الماضى الناقص الذى نجده ربّما ينتظر الحاضر أو المستقبل كى يكتمل أو يلحق به، لكن أن يجتمع هذا الماضى بنقصه وتعثّره أو بطئه ليجذب الحاضر والمستقبل إلى خانته فمسألة تحتاج إلى ما يتجاوز الرياضيات الحديثة بحثاً عن إيجاد البراهين المنطقيّة.

قد يفترض الباحث أنّ الزمان عرف اكتماله، بهذا المعنى، مع بدايات الأديان التوحيدية، وبشكل خاص مع الإسلام الذى أخرج العرب من حياتهم القبلية التى اكتسى وهجها وحضارتها سمات خاصّة، بما فيها تساوق الماضى والحاضر والمستقبل الذى يستظلّ زمن الوحى.

أفكّر أكثر بكلمة العرب التى ترتكز أساساً إلى جذر عظيم هو العين والراء والباء. ولو ذهبنا فى تركيب ما يشتقّ من هذا الجذر الثلاثى لوجدت أمامك أوّلاً: برع والبراعة بمعنى الحذاقة التى يسيل منها الذكاء الخارق والمبادرة، وهذا متوفّر فى تاريخ العرب القديم وفى عراقة الشرق عندما كان العالم كلّه غارقاً فى عصور الانحطاط والظلام. ولوجدت أمامك ثانياً: ربع وتشمل الربوع الترابية والمائية والسماوية التى لا يشبع النظر والنفس من التحديق فيها ومنها تصبح تلك البقعة مخزن الصبر والأدب وحسن الطوية واللطافة وتهذيب الشعوب التى لا تفهم بالانتماء. ولوجدت أمامك ثالثاً: عبر التى تعنى العبور ومن يعبر تلك الربوع والأرجاء الغنيّة الشاسعة يشعر بنفسه وكأنّه فى السماء بقرب الخالق العظيم الذى كوّن السماء والأرض ووضع بين يدى أهلها طاقات الشمس والقمر والأفلاك التى يلهث وراءها العالم البارد بحثاً عن طاقات بديلة. وتجد أمامك رابعاً: رعب الذى هو رعب العالم وجشعه وقساوته بعدما خصّ الله أرضنا بكلماته الثلاث التوحيدية وخيراته وقيمه وبساطته التى لا حدود لها.

بلغ العرب ربّما حدود الرعب بعدما أدمن العالم بالنظر إلى أرضهم كميادين تحقير واختبار للحرائق، مع أنّه بتعذيبهم المفرط وانتفاخ خزائنهم تفاعلوا مع الدنيا مختارين أو مكرهين، وكانوا يضعون أمام أعينهم ما يلى: لا يكفى الماء كى تصبح البذرة شجرة قويّة معمّرة تضرب جذورها فى أعماق الأرض، كما لا تكفى الأموال والثروات كى تصبح الدول الضعيفة قويّة عريقة فى الحضارة والتاريخ. يكفى للعين العالمية وللعقل العربى والإقليمى أن ينظر إلى مدن الخليج كلّها، وفى رأسها دبى وأبوظبى، كى يفهم قدرات العقل والطموح فى بناء المدن السوبر حديثة فى زمنٍ تتساقط فيه أحجار العرب المنقوشة منذ بابل، حيث مرّ الفراعنة والفرس وعرب اليمن والرومان والإغريق والصليبيون والمغول والتتار والبربر والأتراك ودول العالم المعاصر كلّها بكلّ مطامعها واستراتيجياتها وجيوشها.

Comments

عاجل