المحتوى الرئيسى

وُعَّاظ السلاطين | المصري اليوم

09/18 00:20

الفقيه أو عالم الدين فى زماننا، يُجالس السلطان، ويأكل أكله، ويشرب ماءه، ويجلس فى حضرته، ويأتمر بأمره، ويبرِّر له قراراته وأوامره، ويُحلِّل له ما هو حرام، ويُحرِّم له ما هو حلال، ويشبِّهه بالرسل والأنبياء، وأنه يُوحَى إليه، وقد يشطُّ فى القول فيعتبره إلهًا لابد للرعية من طاعته وعبادته والسجود فى حضرته، ويذهب إلى القرآن – كتاب الله العلى القدير - ليؤوِّل آياته، كأنها نزِّلت على السلطان، أو جاءت فى شأنه، ومثل هذا الفقيه رأيناه – أيضًا - جليًّا واضحًا فى تاريخنا، خُصوصًا فى أزمنة الخلافة الإسلامية، ويتكرَّر بالحال نفسها، مع الفارق أنه فى السنوات الأولى للهجرة كان هناك فقهاء وعلماء لهم مكانتهم بصرف النظر عن سلوكهم الذى لا أفصله عنهم، بينما فى زماننا نجد خليطًا وهجينًا غريبًا وعجيبًا بين من يسمُّون أنفسهم بـ«علماء الدين»، إذ صاروا يصفون عددًا ممن نالوا درجة الدكتوراه فى فرع من الفروع الدينية بـ«كبار العلماء»، وصار كل من قرر أن يتربَّح من الدين فقيهًا وعالمًا، وهو بعيد كل البعد عن الفقه والعلم الدينيين.

بينما نجد بشر الحافى أحد أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى، الذى ولد فى بغداد سنة ١٧٩ هجرية، وعاش ومات فيها سنة 227 هـجرية، كان «يشرب ماء البحر، ولا يشرب من حياض السلطان، حتى أضر بجوفه»، «وكان يأخذ من البحر حوتا، فيشويه فى عين الشمس».

وأنا هنا لا أعقد مقارنةً؛ لأننى لا أرى فى المشهد أقطابًا فى الفقه أو فى التصوف، كالذين درستهم، وقرأت عنهم ولهم، وسلكت طريقهم، ولكننى أردت أن أنبه وأؤكد أن العلاقة بين الفقيه والسلطان صارت مفسدةً لا يمكن الصمت عليها، إذ هى من أسباب التخلف والاستبداد والتأخر الذى تنام فيه البلاد والعباد.

هؤلاء الفقهاء المعاصرون يعيشون تحت أضواء الإعلام، فى ترف ورغد، همهم الأول الشهرة، ورحم الله بشر الحافى حين قال: «ما اتقى الله من أحب الشهرة».

علماء هذا الزمان، الذين لن يكون لهم ذكْر على ألسنة الخلق، حيث لا كتاب لهم يمكن أن يبقى، الذين هم بعيدون عن التقوى والورع والطاعة، ويُباهون بعبادتهم، وعلمهم المشوَّه المنقوص، لا يراقبون الله، ولا يحاسبون أنفسهم، إذ يرونها فوق المُحاسبة والمُساءلة، باعتبارهم ممثلين لله، ونوابًا عنه فى الأرض، مع أنهم يؤثرون حُبَّ الدنيا على حُب خالقهم، لا يزهدون ولا يتقشَّفون، يشتهون ولا يعرفون فضيلة التَّرْك، ولا يعزفون نفوسهم، ولا يسقطون فضولهم، ولا يحفظون ألسنتهم، يعيشون فى القصور، ويركبون أغلى السيارات، ويكنزون المال، ويكثرون من الزواج، مطلاقين مزواجين، تسلب الشهوات عقولهم، إذ لا يجعلون بين شهواتهم وعبادة الله سدًّا وراء سدٍّ؛ كى يذوقوا حلاوة الإيمان، بينما نرى الصوفى (وهم يكرهون التصوف كسادتهم الوهابيين والمُتسلِّفين) بشر الحافى كان يقول: «الجوع يُصفّى الفؤاد، ويُميت الهوى، ويورِّث العلم الدقيق». وكان بشر الحافى يقول دومًا: لا يفلح من ألِفَ أفخاذ النساء مُناجيا ربه: (اللهم إنك تعلم أن الذل أحبُّ إلىَّ من العزِّ، وأن الفقر أحبُّ إلىَّ من الغنى، وأن الموت أحبُّ إلى من البقاء).

ودعاء بشر الحافى هذا (اللهم إن كنتَ شهرتنى فى الدنيا؛ لتفضحنى فى الآخرة فاسلبه عنِّى)، لو قرأه أحد ممن أقصدهم من شيوخ هذا الزمان، لاعتبره مجنونًا، ولو قرأ كلامه: (مَنْ طَلَبَ الدنيا فليتهيَّأ للذل) لعدَّهُ معتوهًا لا يدرى من أمره شيئًا، ورآه مُجرَّد صوفى جوَّال يهذى فى الطرقات.

وهؤلاء أعظُهم أو أذكِّرهم بموعظة بشر الحافى علَّهم يتعظون ويؤوبون إلى ربِّهم: (إن فى هذه الدار نملة، تجمع الحب فى الصيف لتأكله فى الشتاء؛ فلما كان يوماً أخذت حبة فى فمها، فجاء عصفور فأخذها، فلا ما جمعت أكلت، ولا ما أملت نالت).

ولابد للفقيه أن يكون مُخلصًا، وألا يُولِّى وجهه قِبلة السلطان، أو يرائيه ؛ لأن (لله الدين الخالص)، وليس لأحدٍ سواه، مهما تكُن المغريات، وهى كثيرة، ويعرف السلطان متى وكيف يمنحها أو يمنعها، والإيمان هو الإخلاص، والجزاء عند الله، وليس عند السلطان، ولكن السلاطين من فرط تقديس الفقهاء لهم، ومديحهم، ظنوا أنفسهم آلهةً على الأرض بيدها المُلك والرزق.

وهؤلاء بدلا من أن يهاجروا إلى الله ورسوله، صارت هجرتهم نحو السلطان، وهو الشرك بعينه لو يعرفون، حيث عميت أبصار قلوبهم، وتلك عقوبتهم فى الدنيا.

وأسوأ السوء قاطبةً أن يفسد العلماء، وكنتُ أسمع دومًا وأنا طفل صغير فى قريتنا (كفر المياسرة) من يقول: «اتق شر الأزهرى إذا فسد»، ولا أدرى من صاحب هذا القول الذى ما زال عالقا فى ذهنى، وكنت أغضب كثيرًا؛ لأننى تربيتُ فى بيتٍ أزهرىٍّ عماده القرآن، ودستوره السماحة والاعتدال، ولا أحب لأحدٍ أن يلفظ مقولة كهذه، ولكن مع انخراطى فى الطريقة الشاذلية، ثم سلوكى الطريق الصوفى، ومعرفتى بقطب صوفى أحبه كثيرا هو بشر الحافى، رأيت أنه يكاد يكون هو أول من نبه إلى فساد العلماء قبل ما يزيد على ألف سنة: (إذا فسد العلماء، فمن بقى من الدنيا يصلحهم، ثم أنشد شعرا «لا أدرى إن كان له أم لسواه»:

يا معشر العلماء يا ملح البلد

ما يصلح الملح إذا الملح فسد.

والذين فسدوا فى زماننا كثرٌ، وربما من الصعب حصرهم، وإن كان منهم عددٌ معروفٌ من فرط فدائحه وفضائحه، حيث يأكلون دنياهم بدينهم وعلمهم، متخذين الدين وسيلة تكسُّب وتربُّح وارتزاق، وصار كل همِّهم جمع المال، والعيش فى ترفٍ، كما يعيش نجوم المجتمع، ولو لم أضع هذه الجملة التى قالها بشر الحافى بين قوسين لظن القارئ أنها صيغت اليوم: (علماء زماننا، إنما هم متلذذون بالعلم، يسمعونه، ويحكونه فقط)، ومثل هؤلاء كمثل الذين يغسلون أياديهم برائحة سمك نتنة.

والمفضوحون من الفقهاء والعلماء فى تاريخنا الإسلامى، وحتى يومنا هذا، لا يكفى مجلد لحصرهم، إذ بتقربهم إلى الحكام والسلاطين، وشوا بأقرانهم ومعاصريهم ومجايليهم، حتى دُفعوا وسيقوا إلى القتل، ومن هؤلاء المقتولين أقطاب فى الشعر والنثر والتصوف والدين بشكل عام، وفى أمر هؤلاء قال بشر الحافى:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل