المحتوى الرئيسى

يناير المنقذ..

09/17 17:23

لا يُحسن حكام العرب فهم السياسة ولا قراءة المستقبل قدر مهارتهم في جمع المال وإذلال شعوبهم..

فالعالم يتبدل ويتغير منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وتلته توابع متتاليه نفضت الدوائر المحيطة بالمنطقة العربية بالتدريج حتى وصلت إلى أطرافه ثم دخلت إلى أعماقه، وما زال حكامنا يعتقدون أنهم يُمثلون ضرورة لسادة النظام الدولي.

لا يدركون أن من يعتبرونهم سادة قبلوا بأن يتغير النظام الدولي، وأن تتغير قواعد اللعبة فيه، وأنه لا قيمة في المرحلة الجديدة، لأولئك الذين يحملون حُللاً قديمة وأفكاراً تُراثية.

القابلية للبقاء هي معيار المفاضلة الذي تتبناه القوى المهيمنة للنظام الدولي، وبدا واضحاً لهم أن الأنظمة القديمة في المنطقة العربية لا تملك مؤهلات البقاء في النظام الجديد.

مواجهة كبار العالم اليوم ليست مع الأنظمة التي تسمي نفسها وطنية أو قومية أو سنية أو شيعية؛ فتلك تنطوي على جرثومة الزوال؛ بل مواجهتها مع ثورات الربيع العربي التي امتلكت استراتيجية تستند إلى استقلال الإرادة وعدم القبول بأقل من الشراكة لا التبعية.

استراتيجيتان تختلفان في المآلات: واحدة يتبناها كبار النظام الدولي، وترى انتهاء صلاحية قواعد اللعبة التي وضعتها اتفاقيات توزيع النفوذ منذ لندن 1840 إلى سايكس - بيكو، وما انتهت إليه الحربان العالميتان الأولى والثانية. وفي نفس الوقت ترى أن العالم العربي أكبر مما يُحتمل وأغنى مما يلزم وينطوي على مخاطر حادة للنظام الدولي، أهمها سيطرته على معابر وممرات وطرق ومصادر ثروة هائلة، مع نمو سكاني عالٍ جعله يقفز إلى ما يُقترب سريعاً من النصف مليار نسمة.

وفيما يبدو من مؤشرات، فثمة سعي حثيث لإنهاء ما تبقى من كتل كبيرة في العالم العربي وإعادة بناء نظام يقوم على تفتيت الكيانات العربية الكبيرة نسبيا، ثم جمع النواتج المفتتة في منظومات وفقاً للحاجة وبما يتوافق ومصالح الكبار بما ينهي كل احتمال لمنافسة أو لشراكة من قبل العالم العربي، وإبقاؤه في المرحلة الجديدة منطقة نفوذ لا منطقة نهوض.

وبالتالي فإن عملية توزيع ديموغرافي وثروي تجري ويُخطط لها أن تستمر لتأخذ في طريقها دولاً وممالك وعواصم كبرى.

لا شيء لدى الأنظمة العربية القديمة يوقف زحف استراتيجية الكبار، فهم لا يمتلكون لا الإرادة ولا الرغبة ولا القدرة على مواجهة تلك الاستراتيجية، وكل ما أمكنهم عمله هو التماهي مع بعض الجوانب التفصيلية لتلك الاستراتيجية عن طريق محاولة خلق أدوار مؤقتة لهم في تلك المراحل. لكن الواضح أنه حتى هذه الأدوار التافهة غير مطلوبة وغير ذات قيمة ولا ينظر إليها الكبار بأي تقدير يُذكر.

في المقابل استراتيجية جديدة حملتها ثورات الربيع العربي تسعى لبناء شكل جديدة للسلطة يعتمد على مشاركة الشعوب في الاختيار والرقابة والمحاسبة، ولإعادة موضعة الجيوش ضمن حزمة من الإصلاحات لتُصبح مخصصة للدفاع وخارج التأثير السياسي؛ وبالتالي يفقد المهيمنون على النظام الدولي أهم ميزاتهم وهي القدرة على إحداث التغيير السريع والمفاجئ في داخل دولنا عن طريق صلاتهم العضوية مع مراكز القرار العسكري.

فعلى مدار العقود السابقة، كانت الجيوش والأسلحة والعسكرة هي الأساس الذي يُراهن عليه الجميع. فالشعوب تعتقد أن جيوشها يُمكن أن تحملها للاستقلال وللرفاهية وللحرية، والنظام الدولي رأى أن نفس الجيوش يُمكن أن تضمن له سيطرة مستمرة على مقدرات المنطقة.

تغلبت رؤية الكبار على إرادة الشعوب، فأصبحت الجيوش المهيمنة على السلطة السياسية، بل والاقتصادية، جزءاً من استراتيجية السيطرة والتبعية، بدلاً من أن تكون جزءاً من مسعى الاستقلال والتحرر.

جاءت ثورات الربيع العربي بنقيض ذلك تماماً، فلم تسع لتفكيك الجيوش، ولم تسع لتدمير المؤسسات، وإنما سعت لإعادة توظيفها في مهامها، وهو ما لو حدث سيحرم المهيمنين من واحدة من أهم آليات السيطرة. فقد كان كافياً لأردوغان -مثلاً- أن يغير عدة عشرات أو حتى مئات من القادة العسكريين، ليقطع التواصل العضوي بين المؤسسة العسكرية والخارج، ومن ثم إعادة موضعة الجيش في بناء الدولة.

المسألة لا تتعلق ببناء الجيوش بقدر ما تتعلق بطريقة تشكل قيادتها العليا، فالجيوش النظامية تنساق لقيادتها بشكل آلي، وهو جزء من منظومة عملها ومن مقتضى مهنيتها، وبالتالي فإن توفير قيادات تمتلك رؤية وطنية، يكفي لتأمين الجيوش من نفوذ الأذرع الأجنبية إلى إدارتها.

المدقق يُمكنه أن يرى أن إجهاض الربيع العربي يأتي عن طريق دفعها لوضعها في مواجهة الجيوش، وكأنها كانت ثورات ضد الجيوش لا لأجل إنقاذ الشعوب -بما فيها جيوشها- من الظلم والفساد وسوء الإدارة.

الصورة المثلى لثورة يناير ليس ما تروج له الماكينة الإعلامية للشؤون المعنوية في صورة جندي يحمل طفلاً يرمز للشعب، بل يجب أن تكون صورة الثوار متشابكي الأيدي وهم يحمون المؤسسات ومنها المراكز العسكرية.

أما سعي ثورة يناير لإخراج الجيوش من المساحات السياسية، فلم يكن إلا الحفاظ عليها وإعادتها لوظيفتها الوطنية السامية وليس حرمانها اقتصادياً أو نزع ما بين يديها من مصادر للرزق. فالجميع يذكر كيف أن كل الشعب قبل التضحية بجزء من قوته لتوفير الأموال اللازمة لدعم المجهود الحربي بعد نكسة 1967.

المهيمنون على النظام الدولي لا يخاطرون بشيء عندما يحاولون وضع الجيوش في مواجهة الشعوب، فإما أن تستسلم الشعوب متخلية عن طموحاتها في الحرية والعدل، أو تتطور الأمور لمواجهة تتمزق فيها الجيوش وتتفتت الشعوب، وبالتالي ننتقل لحالة الفراغ الرخو الذي يصب أيضاً في مصلحة المهيمنين على النظام الدولي.

بينما لدى الثورات الشعبية ما تخاف عليه، لذا فعليها أن تكون أكثر حذرة، فهي تريد قيادة الشعوب لتحقق تطلعاتها، دون أن تسقط في فخ مواجهات بين الشعب وجزء آخر من نفس الشعب يملك السلاح، وهو الجيش.

وعلى المستوى العربي والأممي، فإن الثورات العربية أدركت أن تفتيت المفتت هو ضياع أبدي، فالتفريط في كيانات الدول التي ورثناها عن آبائنا لن يؤدي بشكل تلقائي إلى حلول كيان أكبر موحد محلها، بل سيؤدي لإفساح المجال للمهيمنين على النظام الدولي لاستغلال كافة أشكال التنوع والتعدد لدينا لمزيد من التقسيم والتشرذم.

وبشكل تخيلي، يُمكننا أن نرى أي دولة عربية في صورة أربع دويلات، سواء استناداً لأساس ديني ومذهبي أو عرقي وجغرافي أو سياسي، ولن يعدم الأمر من أبواق إعلامية ورؤى أيديولوجية وتمويل وتسليح للانتقال من الدولة إلى الدويلات.

أدركت ثورة يناير باكراً، أن الحفاظ على الدول هو أساس للانتقال المستقبلي لأي شكل تكاملي أو وحدوي، وبدون ذلك فإن من يتحدثون عن هدم الدول لبناء كيان أكبر لا يُروجون إلا للهدم، والذي تتوفر أسسه، بينما لا ما يبشرون به من وحدة لا يملكون أدواتها سوى النفخ في الأبواق وإلهاب المشاعر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل