المحتوى الرئيسى

أشرف حسن البارودى: عندما تسلم خطاب بلوغه سن المعاش.. قال: أنا النهارده مت

09/17 09:18

- جاهز يا حسن يا ابنى؟ - جاهز يا محمد أفندى.

- ده سعد باشا زغلول بنفسه، هيحضر الحفل، بيض وشنا أدامه، ده زعيم الأمة الله يرضى عنك»!

- حاضر يا أستاذ! كان هذا حوارًا دار بين محمد أفندى مدرس مادة اللغة العربية ومشرف جماعة الخطابة بمدرسة «عابدين» الثانوية، وبين الطالب حسن البارودى. نحن الآن عام 1915. السلطان حسين كامل فى قصر عابدين يملك ولا يحكم. والمندوب السامى البريطانى فى قصر الدوبارة يحكم ولا يملك. والحرب العالمية الأولى بدأت منذ شهور، والقاهرة تخضع للأحكام العرفية، والمواطن المصرى يعانى من ارتفاع الأسعار - بعد نشوب الحرب - سعر السكر وصل الثلاثة أرطال منه إلى 6 قروش صاغ. وصفيحة الجاز بـ18 قرش صاغ، وكيلة القمح بـ14 قرش صاغ. وصحيفة الأهرام تباع بـ5 مليمات وخمسة أرغفة.

عيش بلدى بقرش صاغ، والرغيف الشامى وصل سعره إلى خمسة ملاليم. الأسعار نار.. والناس تشكو.. لكنها الحرب التى تغير الأحوال ومصائر العباد.. فى هذه الظروف تقرر مدرسة عابدين الثانوية إقامة احتفالية كبرى، يحضرها زعيم الأمة سعد باشا وتقرر إدارة المدرسة أن يلقى الطالب المفوه، وصاحب الأسلوب المميز فى الإلقاء «حسن البارودى» كلمة المدرسة - حضر سعد باشا.. بدأ الحفل.. صعد الطالب وبدأ كلمته.. الحضور صامتون ينتبهون، وسعد باشا «يهز» رأسه إعجابًا وفرحًا بهذا الفتى صاحب الصوت المميز القوى. تصفيق حاد من الحضور بعد الكلمة.. يطلب سعد باشا أن يأتى إليه هذا الطالب: أفندم.. اسمى حسن.. يرد سعد باشا.. اسمك حسن.. وصوتك حسن.. وأنا سعيد برؤيتك اليوم.. دعنى أقول لك إنك لو اشتغلت بالمحاماة عندما تكبر.. فتأكد أنك ستنجح فى كل مرافعاتك بحجة قولك، وقوة صوتك.. اتفضل يا ابنى.. ربنا يوفقك، يعود الطالب الذى حاز على ثقة زعيم الأمة إلى بيته، وهو طائر من فوق الأرض من شدة فرحه، وأثناء عودته لمنزله، يحدث نفسه قائلاً: سعد باشا يرانى محامياً.. لكنى أرانى -أو أنا أريد أن أكون- ممثلًا، وفى النهاية الممثل يقول كلمة.. والمحامى يقول كلمة.. والهدف من وراء الكلام هو الوصول إلى كلمة الحق والعدل، فلتكن كلمتى بحثًا عن الحق والعدل على خشبة المسرح وليس فى قاعة المحكمة.. وبالفعل تحقق له ما أراد.

فى هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد».. جاء على ذهنى الفنان حسن البارودى صاحب الدور المميز فى فيلم «الزوجة الثانية» الذى أرخ فيه للشخصية التى تستعمل سلاح «النفاق» السياسى تحت عباءة الدين مستخدماً شعار المرحلة -وكل مرحلة- «قال الله.. وقال الرسول» ليصل إلى هدفه.. والهدف عنده -كما هو فى أى عصر- هو إرضاء السلطة سواء كانت على حق أو على باطل. اتصلت بالابن د. أشرف حسن البارودى، وهو أستاذ جامعى يدرس علم السياحة والإدارة. أهلاً وسهلاً.. هكذا جاء رده عبر الهاتف. الصوت قطعة من حنجرة أبيه، نفس النبرات والوقفات والسكنات، والطريقة والأسلوب، اتفقنا على اللقاء، جلسنا سوياً فى اللحظة والمكان الذى توعدنا عليه. شخصيته تحمل الثقافة فى نبرات الصوت، والملامح منقولة من ملامح الأب، ومن الواضح اهتمامه بملبسه وشكله وهيئته، فهو -بحكم عمله كأستاذ جامعى- يدرك أنه عليه أن يكون قدوة فى الجوهر والشكل أمام المجمع. اتفضل يا أستاذ هات ما عندك، قلت: تحب تشرب إيه؟ رد: أنت ضيفى.. قلت شاى بالنعناع، دقائق وجاء لنا «الجرسون» وعلى يده عصير الليمون والشاى.. وبدأنا الكلام.

أبى.. كان رجلاً محباً للحياة.. طيب القلب يعشق التمثيل، ويرى أن الفن رسالة عظيمة هدفها إسعاد البشر، منذ نعومة أظافره، وهو يبحث عن ذاته التى يعرف أنها لن تعيش ولن تدوم إلا على خشبة المسرح، ففى المرحلة التعليمية الأولى فى حياته وهو يبحث عن ذاته، ويثقف نفسه، ويتعلم ويتقن اللغتين العربية والإنجليزية، لأنه كان يجهز نفسه لمشواره القادم، مشوار التمثيل، ولقد نجح فيما سعى إليه، أتقن اللغة الإنجليزية واللغة العربية التى كان فيها ذا لسان فصيح، وأيضاً يمتلك حجة القول، والمخزون الثقافى الذى ساعده فيما بعد عندما عمل بالفن خاصة الوقوف على خشبة المسرح.

ولد حسن البارودى فى 19 نوفمبر سنة 1898 فى حى الحلمية بالقاهرة. بدأ حياته الفنية هاوياً، ثم التحق بفرقة كونها حافظ نجيب عام 1902، ثم انتقل إلى فرقة عزيز عيد 1922 وبعدها انتقل مع فرقة جورج أبيض، وعينه يوسف وهبى فى فرقته عام 1924 بمرتب 12 جنيهاً، ولم يكن تعيينه فى الفرقة ممثلاً، بل ملقن، واستمر ستة شهور حتى تصادف وغاب أحد أفراد الفرقة فقام فى اللحظة الأخيرة بأداء دوره. وكانت هذه نقطة انطلاقه فرفع يوسف وهبى راتبه إلى 25 جنيهاً ثم انضم للمسرح القومى براتب 16 جنيهاً، وظل بالمسرح القومى حتى رحيله، حصل على وسام الفنون عام 1962 وكرمته الدولة فى عيد العلم، تزوج مرتين، الأولى من الفنانة رفيعة الشال وله منها ابنة اسمها أميرة، ثم الزوجة الثانية من خارج الوسط الفنى وله منها ثلاثة أولاد (انتصار - أشرف - أمينة).

فى نهاية مشوار حياته سُئل فى حديث لمجلة الكواكب عدد أكتوبر 1966 ماذا لو عادت بك الأيام.. ماذا كنت تحب أن تكون؟ رد: ممثل مسرحى..! هذا الرد يؤكد عشق هذا الرجل للمسرح.. هذا العشق الذى جعله يضحى بحبه الأول فى الحياة من أجل عيون المسرح.. عن ذلك يقول لمجلة الكواكب (نفس العدد): لقد أعجبت بى فتاة وصارحتنى بإعجابها.. نشأت علاقة حب بيننا دامت سبع سنوات، وكنت أتلق منها رسالة كل صباح، وأخيراً -ومن حبها لى- طلبت وعرضت علىّ الزواج، فوافقت بشرط أن أترك التمثيل.. فتركتها هى! التضحية يصعب تكرارها!

عدت للابن د. أشرف حسن البارودى.. وقلت له: إلى هذا الحد كان حبه للمسرح؟ قال: أبى كان بالفعل المسرح كل حياته.. وأنا أذكر أنه حتى فى أيامه الأخيرة، التى وهن فيها البصر، والتى كان يجد فيها صعوبة فى القراءة والحفظ، كان يصر على الوقوف على خشبة المسرح، ويؤدى دوره رغم صعوبة ذلك عليه بسبب ضعف البصر. لكن حب المسرح كان عنده أقوى حتى من حبه لنفسه وصحته. قلت له: هناك رواية تقول إنه عندما ضعف بصره واحتاج أن يسافر إلى الخارج رفضت وزارة الثقافة وقتها بسبب عدم وجود ميزانية.. فقام بالاتصال بسيدة الغناء أم كلثوم وطلب منها التدخل لدى الدولة، حتى يتمكن من السفر لإجراء العملية.. ما صحة هذه الرواية؟ قال: صحيحة 100٪، عندما قرر الأطباء ضرورة السفر، لم توافق وزارة الثقافة.. هنا قرر أبى أن يتصل بالسيدة أم كلثوم.. وكان هو من رواد صالونها الثقافى الذى كانت تقيمه فى بيتها، وكانت تقول إن صوته تغنى على المسرح ولا يتكلم» وقتها بالفعل أجرت اتصالاتها على أعلى مستويات سياسية، وفى أقل من 24 ساعة كان كل شىء معداً ومرتباً لسفره، وبالفعل سافر وأجرى العملية وعاد بعدها للوطن.. وأيام بعد أيام مرت عليه.. والبصر يعانده.. وصل عناده معه إلى أن غاب تماماً فى آخر أيامه.

من المسرح الذى ظل يقف عليه، حتى فقد بصره إلى السينما التى قدم فيها عشرات الأفلام ذات المضمون الهادف والرسالة الصحيحة.. تركت الابن يسترجع ذكرياته مع أبيه قليلاً.. واتجهت إلى فيلم يُعد علامة من علامات السينما المصرية.. فيلم الزوجة الثانية من إخراج صلاح أبوسيف، فى هذا الفيلم يقدم حسن البارودى شخصية «مبروك».. ذلك المعمم الذى ينافق «حضرة العمدة» الذى لعب دوره النجم الراحل صلاح منصور أمام الراحل شكرى سرحان، والنجمة سعاد حسنى، وتبلغ ذرة النفاق فى هذا المشهد.

- «أصل العمدة عايز يناسبك»؟

- يناسبنى أنا.. فى مين؟ فى عائشة بنتى؟

- آه.. اتجوز غيرها.. البلد مليانة بنات حلوة.

- أعقل.. هو أنتم خليتم فىّ عقل.

- يرد مبروك قائلاً: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. وأولى الأمر منكم» ويشير إلى العمدة.. هذه الكلمات البسيطة التى ألقى بها إلينا حسن البارودى فى الفيلم، أراد من خلالها أن يقول إن آفة مجتمعاتنا هى النفاق، وبيننا من ينافق باسم الدين، ومن ينافق باسم الوطنية، ومن ينافق باسم الإنسانية، وبيننا من ينافق من أجل النفاق دون أن يطلب منه أحد أن ينافق، فيما يبدو «النفاق» -أو هكذا أتصور- يعد ميراث نتوارثه عبر أجيال، ليخدم أنظمة الحكم، سواء كانت أنظمة ملكية أو أنظمة رئاسية أو تحت عباءة دينية.. لقد أكد لنا الفنان حسن البارودى أن «النفاق» سلعة صالحة لكل زمان، وفى كل مكان ومع أى حكام. المنافق يظل شعاره «أنا أنافق إذن أنا موجود»! وتلك هى المأساة!

عدت للابن الذى فرغ لتوه من فنجان شاى بعد عصير الليمون الذى طلبه فى بداية اللقاء.. وقلت له: كيف كان أسلوبه فى تربية أولاده؟ رد: الذى ربى وعلم هى أمى رحمة الله عليها.. كانت هذه السيدة تدرك مبكراً، أنها زوجة لفنان لا يعرف ولا يحب ولا يهتم إلا بفنه. من هنا عهدت على نفسها مسئولية تربية الأولاد والإشراف الكامل على تعليمنا.. وأبى.. فى النهاية يأخذ تقريراً مفصلاً منها عنا، هذا نجح.. هذا ذهب.. هذا عاد.. وهكذا.

قلت: لماذا لم يتجه أحد فيكم إلى التمثيل؟ رد: أبى كان له طلب واحد عندنا، وهو ألا نقترب من التمثيل.. قلت لماذا؟ قال: إشفاقاً منه علينا، هو كان يرى أن التمثيل عملية شاقة -لاحظ نحن نتحدث عن زمن لم تكن حدثت فيه التغيرات التكنولوجية فى صناعة التمثيل كالتى نراها اليوم- ومتعبة ومرهقة إلى أبعد حد، لذلك كان يقول لنا.. افعلوا ما تروه محبباً إليكم فى حياتكم العملية.. فأنا ليس لى اعتراض على أى مهنة أو دراسة تتجهون إليها، المهم هو أن تبتعدوا عن التمثيل، لذلك اتجهت أنا إلى الدراسة الأكاديمية فى علوم الإدارة والسياحة وأختى تعمل بإحدى شركات السياحة الكبرى.. والأخت الثالثة ربة منزل.. وهذه ابتعدت تماماً عن العمل.

- قلت من أقرب أصدقائه فى الوسط الفنى؟ رد: الفنان الراحل حسين رياض.. كان «عشرة» عمره.. معاً تحركا فى محراب الفن، ومعاً قدما حياتهما للمسرح.. وأنا لم أر أبى بكى إلا مرة واحدة وكانت هذه المرة عندما رحل الفنان حسين رياض وكان وقتها فى الإسكندرية يعمل فى مسرحية وحاول فريق العمل إخفاء خبر رحيل حسين رياض عنه.. لكن بالصدفة عرف قبل صعوده للمسرح.. وكان فى الدور موقف يتطلب منه البكاء.. فى هذه الليلة ظل يبكى حتى بكى معه كل من فى المسرح.. بعد العرض قلت له: ما كل هذا البكاء.. قال: كنت أبكى على صديقى، وحبيبى ورفيق رحلتى عم حسين.. الله يرحمه. وأيضاً كان من المقربين منه الفنان فاخر فاخر ومحمود المليجى وعبدالمنعم إبراهيم وتوفيق الدقن، وأمينة رزق وزكى رستم وأحمد علام وغيرهم من نجوم الزمن الجميل.

«إن صوته يساوى مليون جنيه» كان هذا رأى المخرج الأمريكى «جورج راتوف» وقال عنه الناقد الراحل عبدالفتاح البارودى فى عموده بالأخبار «للنقد فقط» لم يكن الفتى الوسيم أو الفتى المدلل ومع ذلك أوصلته قيمته الفنية إلى مستوى النجم الأول فى أى فيلم أو أى مسرحية حتى ولو كان دوره من أدوار الكومبارس.

عدت للابن وقلت: هل كان يشعر فى نهاية الرحلة أنه لم يحظ بحقه من الشهرة والنجاح؟ رد: بالعكس كان سعيداً بما قدمه، وكان راضياً بما وصل إليه، لم تكن الشهرة تعنيه، ولا جمع المال يشغله.. الذى كان فقط يحرص عليه هو فنه وكلمته التى يقولها، ويقدمها للأجيال الجديدة. وكان يظهر ذلك فى حبه لزملائه من الفنانين.. التواصل بينهم لا ينقطع والزيارات -خارج العمل- كانت مستمرة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل