المحتوى الرئيسى

إبراهيم الشاذلي يكتب: هل نحن بحاجة إلى فقه سياسي جديد؟ | ساسة بوست

09/15 19:00

منذ 1 دقيقة، 15 سبتمبر,2016

ربما تميزت أطروحة عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد، في أنها ليس فقط وضعت يدها على موضع الخلل العميق الذي أدى إلى تأخر المسلمين، وتركيزه على جانب مهم كان سببًا رئيسًا وما زال في تراجع الدور الحضاري للأمة، وهو الاستبداد الذي أدَّى بدوره إلى إضعاف المجتمع وانسحاقه أمام الأنظمة القائمة بشكل أثَّر حتى على الأنظمة نفسها، وجعل محنتها بالدرجة الأولى هي مع مجتمعاتها على حد تعبير برهان غليون في كتابه المعنون المحنة العربية الدولة ضد الأمة.

بل إن ما تميزت به أطروحة الكواكبي في نظري هو بعدها عن الاستشهاد الشرعي والتبرير الفقهي، ليس لإلغاء هذا الجانب وتعمُّد إغفاله، بل لأن الدراسات الفقهية والشرعية في معالجة مسألة الاستبداد والقهر الذي تعاني منه الأمة من ناحية شرعية، ما زال يخطو خطواته الأولى، ولم يتبلور بعد، في إطار فقهي شرعي واضح، من الممكن أن يساعد في إيجاد أجوبة ومقاربات تفسر أسباب الانحطاط  الحضاري للمسلمين، ومن ثم يمكن التعويل عليها في معالجة حالة الانسحاق المجتمعي، أمام آلة البطش الممنهج الذي تقوم به الأنظمة العربية من خلال إطار شرعي وفقهي، فضلًا عن أن تشكل مرجعية يتفق عليها الجميع.

إن الابتعاد عن التكييف الفقهي -ولو مرحليًّا- لمسألة الاستبداد السياسي ليس الهدف منه القفز على قيم الوحي، أو إهدار التراث الفقهي الذي أنتجته الحضارة الإسلامية، ولكن لأنه بات «من الواضح اليوم -خصوصًا في سياق الفقه السياسي والثورات- حجم الإشكال الخطير الذي يضع فيه الفقهاءُ الفقهَ الإسلامي، فقد بات يوضع تارة في سياقٍ يكون فيه أداةً من أدوات الاستبداد السياسي والقهر: قتلًا وتعذيبًا وقضاءً، وتارة في سياق يكون فيه أداة للثورة تجعل من كل فعل ثوري جهادًا في سبيل الله، وثالثة في سياق غُربة عن الأعراف والحاجات الاجتماعية ليبدو غير صالح للتطبيق ومحلَّ نكير، وفي المحصلة تتعمق إشكاليات الفقه اليوم في هذه السياقات وغيرها». خَطَل استدعاء الفقه في الصراع السياسي  مقال على الشبكة العنكبوتية للباحث المتميز الأستاذ معز الدين الخطيب.

وإذا كانت الشريعة مبناها وأساسها كما قال ابن القيم على «مصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، كان لزامًا علينا أن نفارق كل فقه لا يساعد على إعلاء قيم الحرية والكرامة، ورفع الظلم عن الناس ونغرى به باعتباره يتناقض مع تكاليف الشريعة المنزلة». إعلام الموقعين3/11

إذا كانت هذه هي الشريعة، وهذا هو الدين  فإنه وكما قال الشاطبي: «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض الشريعة». الموافقات 3/27

ولا شك أن القهر والتملك ليس من الإسلام في شيء، بل على العكس تمامًا، فحينما جاء الإسلام عزَّز من القيم التي تَزُجُّ بالمؤمن كي يبذل نفسه لإقامة الحق والعدل ودفع الجور والظلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم أُمتي تَهَابُ الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم» أخرجه أحمد والحاكم وصححه.

بل وما إشادة الرسول صلى الله عليه وسلم بحلف الفضول الذي كان قبل الإسلام من أجل نصرة المظلوم، إلا إشادة بقيم العدل والإنصاف.

يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» أخرجه أحمد  وصححه الأرناؤط والألباني وغيرهما.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك» رواه الحاكم وصححه الألباني.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وهذا ما سارت عليه الأجيال التي أعقبت زمن النبوة، فكانت تستعذب ألوان الأذى والاضطهاد في مقابل ألا تُهْدَر إنسانيتها أو كرامتها، يقول الغزالي في الإحياء: «فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة…»، إلى أن قال: «ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، أقدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من من مهجهم عند الله». إحياء علوم الدين2/ 343

بل وصل الأمر بمفكر في القرن الخامس الهجري، وهو الإمام الجويني، إلى أن يكتب نظرية معتبرة في كتابه المهم «غياث الأمم في التياث الظلم»: انتهى بها إلى اختيار ترك الناس من غير قائد لهم، إن لم يكن أمامهم إلا أن يختاروا بينه وبين حريتهم والنيل من كرامتهم: «وترك الناس سدى ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من أتباع من هو عون الظالمين، وملاذ الغاشين، ومعتصم المارقين الناجمين». غياث الأمم في التياث الظلم صـ83

إن هذا الجانب أغفل في حياة الأمة، بل ونُحِّي تمامًا ليحل محله ثقافة الاستنعاج على حد تعبير المفكر الفرنسي إيتيان دي لابويسيه، وأصبحت الشخصية العربية على حد وصف رشيد رضا: «وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي، واستذلال الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي…

إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتُساس بالظلم والاضطهاد؛ تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتُضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع.. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخُلُقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها؛ أَلْفَيْتَه ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليتقحم فيها». مجلة المنار 26/585

ولا عجب أن تكون هذه بعض آثار ما يخلفه الاستبداد والقهر في النفوس. يقول الكواكبي: «الاستبداد يتصرَّف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيُضعفها، أو يُفسدها، أو يمحوها». طبائع الاستبداد الكواكبي صـ65

ويقول المفكر الفرنسي إيتيان دي لابويسيه في كتابه الشهير العبودية المختارة: «إن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين، من المحقق إذا أن الحرية تزول بزوالها الشهامة. فالقوم التابعون لا همة لهم ولا جلد، ويفقدون أيضًا الهمة في كل موقف، وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال، وهذا أمر يعلمه الطغاة جيدًا، فهم ما إن يروا الناس في هذا المنعطف حتى يعاونوهم على المضي فيه كي يزدادوا استنعاجًا»! العبودية صـ 49

إن الاستبداد والقهر أمرٌ بشع، وإن الإنسان المقهور لا يمكن أن يُغْرَس فيه خير، يقول ابن باديس: «الجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بمنازل الرجال». مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ابن باديس صـ392

نعم، إن «الأرض التي تندرس فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال، فإذ أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء. كما أن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة، فيصبح كما قال المتنبي:

فمن في كفه منهم قناة … كمن في كفه منهم خضاب.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل