المحتوى الرئيسى

كؤوس الموت

09/14 16:25

لماذا علينا أن نشرب الكأس حتى آخر قطرة قبل أن نعترف بمرارة قد تجرعتها قبلنا الكثير من الشعوب؟

التاريخ لا يحكي عن محاكمات عادلة لمجرمي قمع الثورات، لا يحكي عن محاكمة عادلة لمجرمي الانقلابات الدموية في تشيلي والأرجنتين، أطاح العسكر في تشيلي بحكومة منتخبة.

نعم كانت مخيبة لآمال ناخبيها الذين دافعوا عن ديمقراطيتهم رغم تربص العسكر بها قبل إعلان نتائج فوز الرئيس سلفادور بالمنصب وحين رفض القائد الأعلى للقوات المسلحة منع تنصيب الرئيس لأن هذا يعني انقلاباً على الديمقراطية، كانت النتيجة هي اغتياله بعد 3 محاولات فاشلة، ثم تكللت الرابعة بالنجاح، دافع الشعب عن ديمقراطيته وغضب لمحاولة اغتيال القائد الأعلى للقوات المسلحة في المحاولة الأولى فاضطر العسكر للرضوخ لرغبة الشعب.

وتم تنصيب سلفادور الليندي الذي لم يكن يملك الحنكة السياسية ولا القدرة على رد الجميل لمساندة الشعب فسقط في انقلاب عسكري شرس دفع ثمنه حياته وتشردت عائلته، كما دفع الشعب أمنه واستقراره، وتردت الأوضاع الاقتصادية الى الحضيض، وعاشت تشيلي 17 عاماً من الديكتاتورية تحولت فيها الى سجن كبير وحياة مظلمة انتهت باستفتاء شعبي لم يتوقع الديكتاتور يونيشة أن يأتي ضده.

بعدها استعادت تشيلي ديمقراطيتها وتم تفعيل الدستور الذي كان قد تم تعطيله من قبل العسكر، ثم استفادت تشليي من تجربة الأرجنتين في العدالة الانتقالية ولم تنشغل بالانتقام بل بدأت بالبناء واعتراف القوى السياسية بأخطائها فيما حدث وما وصلت اليه الأوضاع.

كانت الأرجنتين قد تجرعت كأساً أمرّ، فديكتاتورية الانقلاب كانت فوق ما يمكن أن يتصور بشر قتل وتعذيب حتى الموت لعشرات الآلاف ثم رميهم من الطائرات الى البحر كي لا يتم معرفة مصيرهم، خطف لنساء ورجال وأطفال، وإجبار النساء على الحمل لإنجاب جنود يدينون بالولاء للديكتاتور، ثم إدخال البلد في حرب مفتعلة مع بريطانيا لاكتساب تأييد شعبي.

كل هذا لم ينتهِ بعد أن اضطر المجلس العسكري للاستقالة وترك الشعب ينتخب أول رئيس له بل ظل التهديد بأعمال العنف قائم مع كل محاكمة لأي رمز من رموز النظام ما اضطر الحكومة الجديدة الى الكفّ عن أي محاكمة واكتفت بالحكم على أبرز مرتكبي تلك الجرائم بحكم المؤبد والإقامة الجبرية المرفهة!

تفرغت الحكومة للانتصار الحقيقي الذي تمثل في النهضة الاقتصادية التي حدثت في الأرجنتين والتي أتت كدواء شافٍ لم يكن لأي عقوبات أن تصنعه ناهيك عن أن هذه العقوبات لم تكن لتأتي إلا بالدمار لكل شبر إن اقتربت من العسكر.

لا تختلف الكأس في جنوب إفريقيا غير أن الظلم هناك لم يكن من انقلاب بل من نظام "الفصل العنصري" الذي قام به المستعمر ضد السكان الأصليين، وما تعرض له السود من انتهاكات بسبب الفصل العنصري، التي وصلت إلى السماح لهم بالتواجد في أماكن معينة فقط من البلاد، جعلت منهم مواطنين من الدرجة الثانية، كغرباء في بلادهم عليهم حمل التصاريح للمرور من الشوارع التي يسكنها البيض، والتي تثبت أسباب تواجدهم في هذه المناطق بسبب العمل فقط، حيث لا يسمح لهم بالإقامة أو المرور في أماكن أصحاب البشرة البيضاء. وبعد عقود من النضال والانتهاكات التي طالت عشرات الآلاف وصل السود الى المطالبة بالديمقراطية فقط وقبول المصالحة الوطنية مع البيض، وهو الأمر الذي أتى بنسلون مانديلا أول رئيس أسود في إفريقيا الجنوبية، ورغم كل التحقيقات وحصر الانتهاكات التي حدثت في فترة الفصل العنصري فلم تحدث أي عقوبات تذكر، بل إنه ليس من الدقيق القول إن الفصل العنصري ولّى الى غير رجعة.

أما في المغرب فلم يتبن نموذج العدالة الانتقالية هناك أي محاكمات لكنه فقط وضع تعويضات كجبر ضرر لضحايا الانتتهاكات مما وصفه البعض حينها بشراء صمت الضحية، بالإضافة الى إصلاح بعض المؤسسات بينما انشغل العراق بالمحاكمات والانتقامات، ولم يتبن مبدأ العدالة الانتقالية وغض الطرف عن النماذج التي في الأرجنتين وتشيلي وجنوب إفريقيا فلا مصالحة وطنية ولا جبر للضرر ولا إصلاح مؤسسياً، والنتيجة كانت ضياع العراق ووقوعه بيد عصابة لا تبقي ولا تذر، ويبدو أن النموذج العراقي هو ما ينتظر دول الربيع العربي في حال عدم تبني مبدأ العدالة الانتقالية.

بدت الأحزاب السياسية في اليمن أكثر نضجاً من غيرها في استشعار خطر الحرب الأهلية وأهمية المصالحة الوطنية حتى قبل أن تندلع ثورات الربيع العربي، حيث ظهر "اللقاء المشترك" في 2002م لصنع تغيير سلمي ديمقراطي، ولا يمكن إنكار أهمية هذا المولود كنواة في جسم التغيير السلمي وإسقاط خطط النظام الحاكم بإشعال حرب أهلية يكون وقودها الأحزاب المعارضة.

وقد أنجزت هذه التجربة التغيير السلمي في انتخابات 2006م حين قدمت مرشحاً واحداً للمعارضة الذي يرجح أنه حصل على أغلبية الأصوات التي رفض النظام الاعتراف بها وهدد بالحرب الأهلية، غير أن المعارضة رأت أن الحرب لازالت في متناول الظروف أكثر من التغيير وبقى الوضع توافقياً حتى الانتقال الى الديمقراطية واستمر التلويح بالحرب الأهلية، فكلما طالبت المعارضة بعمل سجلات انتخابية جديدة لعدم صلاحية السجلات القديمة يتم تأجيل الانتخابات.

ومع كل تهديد بالحرب تهدد المعارضة بخروج الشعب الى الشارع حتى جاءت ثورات الربيع العربي فسهلت تهديدات المعارضة وخرج الشباب الى الشارع دون نداء، حدثت الثورة وجاءت حكومة توافقية، وكان من المفترض أن يعتبر هذا نصراً كبيراً لولا الانتقادات المجحفة للتجربة والاستياء من عدم حدوث أي محاكمات أو عقوبات، وهي الحالة التي وصلت اليها الأرجنتين وتشيلي وجنوب إفريقيا حين يئست من العقوبات بعد أن دفعت المزيد من الضحايا ثمن الحصول على هذه العقوبات التي لم تأتِ، ولم يكن هناك تقدير لأهمية المصالحة بأقل الخسائر وأن اليمن يقدم تنازلات لدرء الحرب عن أرضه ما سهل إسقاطها.

وبالانقلاب على هذه التجربة التي شارك فيها شخصيات وقيادات أحزاب وطنية لم تكن بقدر المسؤولية التي تقع على عاتقها تم الانقلاب على التغيير السلمي، فبدلاً من أن تدافع الأحزاب السياسية عن التجربة الرائعة التي قدمتها ظلت تراوغ في وصف الثورة المضادة بأنها صراع بين قوى تقليدية وجماعات مسلحة ستقضي على نفسها في الأخير فيسهل دور بقية القوى المدنية، وهكذا تم تخدير الشباب حتى انتهت مهمة الانقضاض على الدولة وجر البلد في الحرب الأهلية الذي ظلت الأحزاب تقارع إشعالها لأعوام وتطفئ نارها كلما اشتعل أول فتيل فيها.

وهكذا نكثت المعارضة اليمنية غزلها وأصبحت الخطوات التي كانت تفصل بين اليمن والديمقراطية رحلة مجهولة الأمد بعد أن كانت تترقب الوصول اليها بعد أشهر معدودة.

فشل هذه التجربة شارك فيه من كان له نظرة حقوقية في أهمية معاقبة الجناة والقصاص للضحايا وذلك بحسن نية، بينما استغلت الجهات الداخلية والخارجية والتي تخدمها الحرب أكثر من الديمقراطية، كل هذه المعطيات للانقضاض على الديمقراطية وإشعال نار الحرب، أكثر من 15 عاماً استغرقت المعارضة في تشيلي لتعترف بمرارة كأس الخيبة الذي تجرعته بوقوفها مع الجيش للانتقام من الليندي وإسقاطه بانقلاب بدل أن تفعل ذلك عبر صناديق الاقتراع، اعترفت متأخرة بأنها أخطأت في عدم رفض انتهاكات الجيش، وأنها بالغت في نشر الخوف من خطر الشيوعية في أوساط الشعب ما سهّل على العسكر صهر انقلابهم في قالب ثوري لم تنج من بشاعته المعارضة نفسها.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل