المحتوى الرئيسى

بالصور.. فرحة العيد.. "ماتت" وسط القبور

09/14 08:45

يعيشون فى صمت رهيب وسكون قاتل لا يقطعه سوى صراخ النائحات، ونواح الأرامل، وأنين الثكلى، وآهات المعذبين بألم الفراق، وبكاء الأطفال والشباب الذين يتبعون ذويهم الموتى، أثناء تشييعهم لمثواهم الأخير.. لقد سئموا من الحياة وسط الأحياء بعد أن طالهم شرهم، فلجأوا إلى الموتى، لعل جوارهم يكون أكرم وأسلم، حيث لا تنافس على شىء من أعراض الدنيا الفانية، لا حقد، لا غل، ولا حسد.. هذه المقابر ربما تكون سكناهم الأخيرة، حيث ضاقت بهم الحياة وامتزجت بنكهة الموت ولم يعد لهم من جيران سوى الموتى. فمن يطبب جراحهم الغائرة؟ من يشفى آلامهم؟ من يمسح دمعهم؟ من يزيل عنهم حزنهم؟

إننا لا نتذكرهم إلا عند تشييع الموتى.. إنهم يحلمون بالخروج إلى عالم الأحياء، والهروب مما هم فيه، خاصة وأن الحسرة تسكن قلوبهم، فهم يصحون على منظر شواهد القبور الصماء، وينامون عليها، لا يسمعون سوى صمت الموتى، أو بكاء أقاربهم، وأصبح كل شىء فى حياتهم يعبر عن الموت الذى يحاصرهم من كل جانب، خاصة أن هناك العديد من الوعود التى تلقوها دون أن يتحقق شىء منها. والسؤال الذى يطرح نفسه هو: من السبب فى هذه الحياة التى تشبه الموت، والتى يحياها هؤلاء المنسيون؟ هل كُتب عليهم أن يعيشوا أمواتا وهم لا يزالون بعد أحياء؟ هل تلك الحياة البائسة فرضت عليهم بسبب الحكومات التى أهملتهم، بل ونسيتهم، والمسئولون لم يعيروهم أدنى اهتمام، بل لم يعاملوهم حتى كبشر!

عبد الغنى صبح - تُربى بمقابر الإمام ومقيم هناك - بادرنى بالقول: لا أحد يشعر بنا نحن سكان المقابر، الحكومة أهملتنا، والمسئولون تجاهلونا، ولم يعيرونا أدنى اهتمام، وكأننا لاجئون، ولسنا من هذا البلد، ولذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا فى وجوهنا، وأُغلقت أمامنا أبواب الرحمة، ولم نجد ملجأ سوى الله، ولم يعد لنا من سبيل سوى رفقة الموتى، نقاسمهم السكنى والمأوى. وأضاف «عبد الغنى» بعينين زائغتين: لقد هربنا إلى هنا بعد أن لم يسعنا الأحياء، فوسعنا الموتى، عسانا ننعم براحة البال معهم. سألته: كيف يمر عليكم العيد هنا؟، أجاب بألم وأسى: يأتى العيد كل عام، ويفرح الناس، ونظل نحن أسرى الهم والحزن، ويأكل الناس مختلف أنواع اللحوم، ولا نجد نحن هنا إلا بقايا الأجساد البالية. إذا كان الأمر يقتصر علينا، فلا يهم، فقد تعودنا على هذا، ولكن ما يحز فى نفسى هم أولادى، فبأى ذنب يُحرمون من فرحة العيد مثل باقى أقرانهم؟، وأى جريمة اقترفوها لكى يحيوا حياتنا التى لم نخترها. وبعين غطتها الدموع، ووجه ملأه الانكسار، ويد كساها التراب، رفعها «عبد الغنى» إلى السماء، داعيا على الحكومة والمسئولين فى هذا البلد، قائلا: منهم لله.. ويضيف «عبد الغنى»: أطالب الحكومة بتوفير مأوى ومساكن لنا، حتى نشعر بأننا مازلنا أحياء، وأننا مواطنون من هذا البلد الذى أهملنا ونسينا، بل وأخرجنا من حساباته على الإطلاق، وكأننا لسنا مصريين. ويطالب المسئولين بأن ينظروا إلى سكان المقابر بعين العطف مثل المواطنين فى باقى الأحياء الأخرى.

وما إن شاهدنا أطفال المقابر، حتى جروا وراءنا، عسى أن يظفروا منا بشىء، ظنا منهم أننا أصحاب حالة وفاة، كانوا يهتفون: «الرحمة» قاصدين الخبز أو مالا إنها مأساة حقيقية تلك التى يعيشها أطفال المقابر، فأقرانهم من الأطفال عادة ما يذهبون إلى متنزهات يلهون فيها، وحدائق يلعبون حول أشجارها، يركضون هنا وهناك. إلا أنه عند سكان المقابر، تشابهت اللعبة، واختلف المكان، فهم يلعبون حول القبور، ويتخذونها مكانا للاختباء من أقرانهم، ليسوا مثل غيرهم من الأطفال الذين يمرحون فى الملاهى، ويستنشقون نسمات الهواء فى المتنزهات، فهم لا يشمون سوى رائحة الأجساد البالية التى تحيط بهم. إنهم قد ألفوا المكان، واعتادوا عليه، وأصبح جزءا منهم، تربوا على مشاهد الحفر، ودفن جثث الموتى، وصارت الزيارة اليومية للقبور والدعاء للأموات هواية بالنسبة للكثيرين منهم. وأصبح المشهد بالنسبة لهم عاديا، ترسخ فى ذاكرتهم إلا أن هذا كله لا يؤثر فى لهوهم ولعبهم، فكل شىء فى حياتهم ارتبط بالموت، حتى ابتساماتهم اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم. باختصار لقد تم اغتيال براءاتهم، فما أن تراهم حتى تشعر بأنهم قد شاخوا قبل الآوان.

أما عن السيدات اللاتى يسكن المقابر، فالسيدة بمائة رجل.. التقينا بأم مجدى ـ زوجها متوفى ولديها من الأولاد سبعة زوجت خمسة منهم ويعيش معها ولدان فقط ودخلها الوحيد هو معاش السادات الذى يبلغ 360 جنيها، ولهذا تقوم بتنظيف الأحواش من أجل بضعة جنيهات قليلة تعينها في تربية أولادها.

قالت أم مجدي: نعيش هنا حياة بائسة تعيسة.. حياة لا نذوق فيها طعم الراحة. حتى عندما تغيرت الحكومات، وتبدل المسئولون، استبشرنا خيرا، وقلنا إن حالنا ستتغير إلى الأحسن، وسنعيش مع الأحياء، ولكن بقيت حالنا كما هى لم تتغير، وبقى وضعنا كما هو لم يتبدل. وتتابع «أم مجدى» رافعة يديها إلى السماء كمن تدعو على أحد: إذا كانت الحكومات قد نسيتنا، فإن الله لن ينسانا. وإذا كان المسئولون قد أهملونا، فإن الله سيتكفل بنا ويرعانا. ثم تتتنهد «أم مجدى» وهى تقول: كم من وعود قطعتها كل الحكومات السابقة على نفسها لتوفير مأوى لنا، ثم لا تلبث هذه الوعود أن تتبخر، وتذهب أدراج الرياح، لنظل نتجرع المرارة والألم والعذاب، وتمر علينا الأعياد لا نعرف طعم الفرحة، ولا نشعر أبدا بالسعادة، ننتظر الإحسان من الآخرين، وأملنا الحصول على لقمة عيش تملأ بطوننا الخاوية، وملابس رثة تستر أجسادنا العارية، ويد حانية تربت على ظهورنا، وتزيل الفزع الذى يسكن نفوسنا.

وأثناء جولتنا فى المقابر، شاهدتنا سيدة عجوز، فسألتنى وهى فرحة: هل سنحصل على الشقة التى وعدنا بها زملاؤك فى التليفزيون الذين كانوا هنا من قبلك، وصوروا كيف نعيش؟ وقبل أن أنطق، سارعت بالقول: منذ أكثر من عشر سنوات، وأنتم تأتون إلى هنا تصورون، ولا تفعلون شيئا. كم وعدنا المسئولون بشقق، ثم نكتشف بعد ذلك أنها مجرد وعودا زائفة.

وقبل أن أنصرف، رفعت يديها إلى السماء، وقالت: حسبى الله ونعم الوكيل فى الحكومة والمسئولين الذين يعيشون فى واد، والشعب يعيش فى واد آخر، هم يعيشون فى الفيلات والقصور، ونحن نعيش مع الأموات فى القبور، وأولادنا سيرثون نفس المصير.

أما عاشور - فلديه 4 أطفال كلهم فى المدارس.. سألته: هل قمت بشراء لحمة العيد؟ فأجابنى بحسرة: كيف أشترى اللحمة وسعر كيلو لحمة الخروف يصل الى120 جنيها علما أن الكيلو الواحد لا يكفى العائلة بأكملها.. ويكفينا مصارف المدارس التى تقصم ظهورنا.. فالعين بصيرة واليد قصيرة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل