المحتوى الرئيسى

بائع الموت

09/11 10:56

"مش مهم الثمن، عاوز علبة سجاير من غير صورة"، هكذا يطلب أحد المدخنين من "عبدالله"، صاحب كشك لبيع التبغ والمرطبات يطل على مستشفى الأورام، قرب ميدان الخليج، بقلب العاصمة المصرية القاهرة.

فحسب لائحة تنفيذية لقانون مكافحة التدخين بدأ تطبيقها في مصر أصبح لزاماً على كل شركة منتجة للتبغ في مصر وضع صور على علب التبغ يظهر فيها رجل يقاوم الاختناق، راقداً بغرفة عناية مركزة، وعلى فمه وأنفه جهاز للتنفس الصناعي.

يقول عم "عبدالله" بعد أن باع علبتي سجاير ماركت كليوباترا الشعبية بأكثر من ثمنها الحقيقي بنحو 20%، وكأن ضرر السجاير اللي جوه العلبة من غير صورة أقل من ضرر السجاير اللي في علبه بصورة!

يشير البائع "عبدالله" إلى الباب الرئيسي لمستشفى الأمراض السرطانية ويستطرد في الحديث: إن غالبية من يدخلونه هم ضحايا التدخين، أقارب المرضى يأتون لشراء العصائر، وحين أسألهم يقولون لي إن السجائر وراء إصابة قريبهم بهذا الداء اللعين، ومع ذلك تجدهم يشعلون السيجارة قبل أن يدخلوا لرؤيته على سرير الموت!

الطريف أن عم "عبدالله" البالغ من العمر 44 عاماً كان يتحدث وهو يدخن سيجارة بينما عيناه تنتقلان بين علب السجاير المصفوفة أمامه بما عليها من صور وكلمات تحذيرية واضحة وبين مريض جديد يدلف به أهله لمستشفى الأورام!! وكأنه يفكر في أنه في يوم من الأيام قد يأتي عليه الدور ليصبح ضمن نحو ثلاثة ملايين مصري يموتون سنوياً بسبب التدخين!!

يحزنني كثير ما يوهم به بعض الشباب أنفسهم من أن لديهم مشكلات كبرى تسبب لهم فيها الحظ السيئ الذي يطاردهم في الحياة دوناً عن غيرهم، ليبرر الشاب استبعاده النفسي للسيجارة، فما أن تسأل أحدهم عن الموقف الذي حدث له فابتدأ معه التدخين، إلا وأنفجر شاكياً: "حبيبتي سابتني أصلها ما كانتش تستاهل الحب اللي كنت بحبه لها!"، وآخر يبرر بأنه فاشل لم يستطِع النجاح في دراسته الجامعية لمدة سنتين وحتى الآن! وثالث يرى في تحمله مسؤولية عائلته بعد وفاه أبيه سبباً كافياً لتوقف ديمومة حياته.. إلخ.

أسباب كثيراً ما نسمعها وأعذار لا تنتهي يحاولون بها أن يجعلونا نتفهم وجهة نظرهم، وكأن ما أحد تعرض لموقف غيرهم، لكن الفرق بين الشباب الذي واجه مشكلات حياته بما لديه من نضج فكري وترسخ ديني وبين هؤلاء الشباب، هو أن الشباب والفتيات الذين هربوا إلى التدخين عجزوا عن مواجهة الموقف بسبب أن الكثير من الأشخاص تبرمج من الصغير على الاعتقاد السلبي الذي يكبر معهم حتى يصبحوا سجناء لما يسمي "البرمجة السلبية"، التي يكتسبونها من الأسرة أو المدرسة أو الأصدقاء أو منهم جميعاً!

لكن الأدهى من وصول بعض الشباب والفتيات إلى هذه المرحلة من التدخين والمخدرات هو ما يسبقها من أسباب قد يكون للوالدين تأثير مباشر فيها إذا كانا ممن يدخنون السجائر، فينشأ الأبناء في بيئة اعتاد فيها على شم تلك الرائحة السيئة! أو أن يدفعا الوالدان أبناءهما إلى الانزلاق والهروب لتجرّع الموت بالتدخين والمخدرات إذا كانت الأسرة تعاني من تفكك أُسري أو لا يجد الأبناء الاحتضان اللازم في المنزل والمعاملة الطيبة، فيبحثون عن بديل يتوفر غالباً في محيط الأبناء من الأصدقاء، ولغياب التوجيه من الوالدين وللفجوة الكبيرة التي تكون بينهم وبين الأبناء يقع أبناؤهم غالباً في شباك الأصدقاء السيئين يقدّمون لهم الانحراف على أنه تجربة لأشياء جديدة ممتعة!

على أنه حتى تلك العوامل التي نظنها سبباً رئيسياً في حمل المراهق على التدخين والمخدرات كالرغبة في المغامرة ووهم استقلال الشخصية أو المعاناة من خلل نفسي يجعل منه شخصاً لا يجيد إلا الهرب من مواجهة المواقف إلى التدخين والمخدرات، كل ذلك ما هي إلا عوامل ظاهرية لسبب رئيسي هو انشغال الأب والأم عن رسالتهما الجوهرية في الحياة إلى انكفاء كليهما في التنافس لتحقيق ذاتهما!!

فيحرم الأبناء من عاطفة الأمومة واحتواء الأب يدفعهم ذلك لتكوين مجتمعهم الخاص يكونون أحرص على كسب ثقة المجتمع الناشئ من الانتباه لخطورة إضرارهم بأنفسهم وتبديد ثروات الأمة، كما تشير الإحصاءات إلى أن العالم العربي ينفق على التدخين 12 مليار دولار سنوياً! وأن شعوب العالم العربي تستهلك كل عام ما يقرب من "بليون" سيجارة رغم أن حالتهم تُصنف على أنهم أنصاف مدمنين، فكم سيجارة سيدخنون عندما يصلون إلى حالة الإدمان الكامل؟! ويأتي الجيل الذي تربى على يديهم فيعاني من نصف إدمان بدايةً قبل أن يصل إلى الكامل!!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل