المحتوى الرئيسى

طارق عبدالباسط عبدالصمد: رفض استكمال علاجه فى لندن

09/10 08:47

ـ الله.. الله يا مولانا، فتح الله عليك، مدد مدد، مدد يا كريمة، بهذه الكلمات علت أصوات المصلين فى ساحة مسجد السيدة زينب، بوسط القاهرة، بعدما انتهى الشيخ «الشعشاعى» من تلاوته لما تيسر من القرآن الكريم وكان ذلك فى عام 1951، بعض المصلين قاموا للسلام والتحية على السيدة الشريفة، العفيفة، الكريمة، «ستنا زينب»، والبعض الآخر، قام لأداء ركعتين سُنة، فى انتظار مواصلة الشيخ «الشعشاعى» قراءته لآيات من الذكر الحكيم فى تلك الليلة الإيمانية، والسهرة القرآنية، التى تعم جنبات المسجد «الزينبى». فى ركن قصى من المسجد كان يجلس شابًا عمره لا يتجاوز الـ25 عاماً، يستمع إلى كبار القراء، وهو يتمنى أن يكون صوته بجانب صوتهم، الشاب هو ـ فى ذلك الوقت ـ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.

ـ الأجواء داخل المسجد ترتفع وتيرتها الإيمانية، وخارجه صخب الاحتفال بذكرى مولد السيدة يعلو ضجيجه. وما بينهم قام الشيخ ـ صغير السن ـ بأداء ركعتي تحية المسجد، ثم جلس فى انتظار مواصلة كبار المشايخ إحياء الليلة التى تنقلها الإذاعة المصرية. بعد دقائق اقترب منه رجل يرتدى «الجلباب» و"العمة" وملامحه تدل على أنه «صعيدي» من الجنوب، وخطوة بعد خطوة جلس بجوار الشاب الذى يعرفه جيدًا. الشيخ عبدالباسط رد: وهل تعرفنى؟ قال: نعم أنا بلدياتك يا مولانا من محافظة قنا، ففرح الشيخ وقال له: أهلا بك.. فرصة سعيدة. سكت الرجل قليلاً، ثم قال له: لماذا لا تتقدم لتقرأ. فأنت صوتك جميل. وأنا أستمع له فى الصعيد هناك. وهذه فرصة ليستمع لك أعداد كبيرة. رد الشيخ: ولكن كيف لى أن أجلس وأقرأ وسط كبار المشايخ. دع هذا لى.. ثم تركه الرجل قليلاً، وتقدم حتى وصل إلى الشيخ «الشعشاعى» وطلب منه أن يقرأ هذا الشاب صاحب الحنجرة القرآنية الذهبية. نعم.. على الرحب والسعة.. يتفضل نستمع له. وبخطوات ثابتة، تقدم للأمام وأمسك بالميكروفون. وأخذ جلسته، واستدعى أحباله الصوتية القوية. وأعدل عمامته، وبدأ فى تلاوة آيات الذكر الحكيم. وحرفا وراء حرف، وآية بعد آية، انتبه كل من بالمسجد. وهدأ الضجيج بالخارج قليلاً. الآن يقرأ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد القرآن الكريم، وكان محددًا له عشر دقائق زادت إلى المائة دقيقة، وكلما ختم قراءته، تنهال عليه الأصوات من جميع جنبات المسجد. الله.. الله زدنا يا مولانا.. ربنا يفتح عليك. مدد.. مدد.. ويستجيب الشيخ لهم، ويواصل القراءة.. لينطلق بعدها إلى آفاق رحبة من الشهرة جعلته أحد أهم الأصوات، وأصدقها، وأعذبها، تتلون آيات الذكر الحكيم فى عالمنا الإسلامى. إنها ـ حسب قوله فيما بعد بركة أهل البيت.

فى هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد». اتجهت إلى لحن من ألحان السماء، كما كان يطلق عليهم عمنا الراحل محمود السعدنى، إلى أصحاب الأصوات القرآنية الرائعة.. إلى زمن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد وصوته العذب الجميل. اتصلت بابنه اللواء سابقًا ـ القارئ حاليًا ـ الشيخ طارق عبدالباسط عبدالصمد، حتى أعود معه إلى عالم مولانا الشيخ الجليل ـ رحمة الله عليه ـ وإلى حنجرته وأسلوبه الفريد فى التلاوة. اتفقنا.. والتقينا بمنزل الأسرة فى المهندسين، حيث كان الشيخ يعيش حتى وافته المنية عام 1988. صوت الشيخ فى المكان، وبركة القرآن الكريم تحيط بنا، ودقائق.. دخل عليه بعدها الابن طارق.. رديت السلام ثم جلسنا، استأذنت منه أن نجعل صوت الشيخ حاضرًا معنا عبر جهاز التسجيل الموجود بالقرب منا. حاضر.. ثم وضع شريط الكاسيت ومنه جاء صوت الشيخ وهو يرتل القرآن ترتيلاً، ثم أخفضنا الصوت قليلاً، وبدأنا الكلام.

ـ قلت: أن يكون أبوك شيخًا قارئا للقرآن، هل هذا يفرض عليك سلوكًا محددًا فى الحياة؟ قال: السلوك هنا هو انعكاس للتربية، فأنت يأتى فعلك وسلوكك فى الحياة، من نظام التربية التى تعلمت وتعودت عليها، فنحن مثلاً كأبناء للشيخ عبدالباسط عبدالصمد، نشأنا على آيات القرآن، وسماع آياته، فالبيت يتلى فيه آيات الذكر الحكيم آناء الليل وأطراف النهار.. وهذا يأخذ ـ من تلقاء المشهد ذاته ـ إلى سلوك معك ومع الآخرين حولك، يختلف عن غيره. قلت كأطفال.. كيف تكون الطفولة فى منزل شيخ بمكانة وشهرة أبيك؟ عادية جدًا. أطفال نلعب ونلهو ونذاكر ونتخانق، ونضحك، ونبكى، وإذا أخطأنا نُضرب ونعاقب. لكن الأهم من ذلك ـ وهنا يأتى الاختلاف ـ أن كل هذا نفعله بأدب. وليس بسوء الأدب. ويرجع ذلك إلى حرص والدى رحمة الله عليه ـ أنه جعل القرآن الكريم عنوانا لحياتنا، مثلما كان عنوانًا لصوته، فسعى إلى أن نحفظ كتاب الله ونحن أطفال. قلت وهل كان لديه الوقت لذلك؟ قال: للأسف كثرة سفرياته لبلدان العالم الإسلامى، لقراءة كتاب الله، جعلت ذلك صعبًا عليه، لكنه عهد بذلك إلى أحد المحفظين، الذين ساعدونا على حفظ كتاب الله جميعًا. وهو فعل معنا ما فعله معه أبوه وجده الشيخ محمد عبدالصمد، حيث حفظ أبى القرآن قبل بلوغه سن العاشرة ندما التحق بـ«الكتاب» عام 1943 فى محافظة قنا.

تركت الشيخ طارق قليلاً وعدت لمحافظة قنا. نحن الآن 1 يناير 1927. فى هذا اليوم ولد الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. ترتيبه الثالث بين إخوته. أخوه الأكبر محمودعبدالصمد. مفتش ثانوى سابق ويعتبر أول من تعلم بالأزهر بالمحافظة. يليه عبدالحميد عبدالصمد ناظر ثانوى أزهرى بالمعاش. ثم الشيخ عبدالباسط ثم أخوهم الأصغر عبدالله عبدالصمد. التحق الشيخ عبدالباسط ثم أخوهم الأصغر عبدالله عبدالصمد. التحق الشيخ عبدالباسط بالكتاب مع إخوته وعمره 7 سنوات. وفى ثلاث سنوات حفظ كتاب الله. تفرغ الأب لابنه فأولاه اهتمامًا خاصًا بعدما ألحقه بالمعهد الدينى بمدينة «أرمنت» فتعلم القراءات وعلوم القرآن، ووقتها نال اهتمام شيخه العالم الأزهرى محمد سليم حمادة الذى قام باصطحابه معه، ليقرأ فى السهرات والحفلات الإيمانية القرآنية فى قرى ومدن ونجوع الصعيد، ليصبح الصبى عبدالباسط مشهورًا وعمره لم يتجاوز الـ15 عامًا.

عدت من قرية «أرمن» بمحافظة قنا إلى القاهرة ومازال صوته يأيتنا من جهاز الكاسيت خلفنا فى منزله بالمهندسين، ومازال يجلس معى ابنه اللواء طارق.. قلت له.. أنت الآن بالمعاش أليس كذلك؟ نعم كنت التحقت بكلية الشرطة ووصلت إلى رتبة لواء ثم خرجت للمعاش وأركز اليوم فى قراءة القرآن الكريم، فى نفس الطريق الذى مشى عليه أبى. قلت ومتى استقر الشيخ فى القاهرة؟ قال: بعدما استمع له المصلون فى مسجد السيدة زنيب وأحب صوته الناس، قرر وقتها أن يعيش فى القاهرة عام 1951 واختار أن يكون بجوار مسجد السيدة زينب. وبالفعل استأجر شقة فى السيدة زينب وعاش بها سنوات طويلة ثم انتقل بعدها إلى جاردن سيتى ومنها إلى منيل الروضة ثم العجوزة وفى النهاية استقر به الحال هنا فى المهندسين. قلت: كيف كان أسلوبه فى تربية أولاده؟ رد: بالحسنى والقول اللين وتعليم قواعد التربية الاسلامية الصحيحة، لم يكن يغضب وأن غضب؛ يكون غضبه بسيط، دون تعصب أو عنف. وكان يعلمنا أن الأخلاق هى أساس نهضة الإنسان، فلو الإنسان لديه القدر الكافى من الأخلاق؛ فالمؤكد أن هذا القدر، سيجعله بعيش فى أمان وسلام، وينجح فى حياته العملية، وينجح أيضًا ـ وهذا هو الأهم ـ فى علاقته مع ربه. قلت هل فرض نوعًا معينًا من الدراسة عليكم؟ قال: لا.. ترك لنا حرية الاختيار، فنحن خمسة أولاد كنا نعيش ونحن أطفال فى شقة بالدور الأول فى شارع على الجارم بالروضة مكونة من 5 غرف وكان إيجارها ـ على ما أذكر ـ 18 جنيها فى الشهر عام 1959.

عام 1955 فى شهر سبتمبر ذهبت مجلة «أهل الفن» لإجراء حوار مختلف مع رجل من أهل «الدين والقرآن» الكريم هو الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. ونشر هذا الحوار فى عددها رقم 78. جاء فيه أن الشيخ عبدالباسط تزوج وعمره 28 عامًا من ابنة عمه، والتى أنجب منها 3 بنات وولدين. أكبرهم سعاد وأصغرهم جمال. ثم سأله المحرر عن أحسن ممثلة؟ قال: فاتن حمامة وأحسن ممثل: قال: يوسف وهبى. وأحسن فيلم شاهده قال: الطريق المستقيم. وعن أفضل مطرب قال: عبدالحليم حافظ وعن سيارته الجديدة وهل لديه سائق؟ رد: أنا الذى أسوق سيارتى بنفسى. ثم رسم محرر المجلة صورة للشيخ جاء فيها «أنه يجب وضع أرقى العطور.. ويرتدى أجمل الثياب، حيث يرى أن قارئ القرآن يجب أن يهتم بمظهره أكثر من أى شخص آخر. هذه الصورة ترسم ملامح الشيخ من أنه شخصية وسطية يحب الله ورسوله. ويحمل كتابه فى قلبه، ويرسله فى رسائل عبر صوته العذب الشجن، لكن فى الوقت نفسه لاغلو فى الدين عنده، فهو ـ طبقًا لحديث مجلة أهل الفن معه ـ يشاهد الأفلام ـ أو بعضها ـ ويستمع إلى الغناء الجيد ويهتم بشكله ومظهره، فهو مرآة للمسلم الذى يحببك فى الدين والدنيا، وليس المسلم ـ الداعشى مثلاً ـ الذى يكرهك فى الدين والدنيا. هكذا كانوا.. وهكذا كنا!

عدت للابن: قلت له: كيف أخذ طريقه للإذاعة المصرية فى ذلك الوقت؟ قال: بعد أن قرأ فى مسجد السيدة زينب فى تلك الليلة الشهيرة عندما جاء إلى القاهرة، عرض عليه البعض الانضمام للإذاعة، فى البداية رفض وقال يكفى شهرتي في الصعيد. لكن الشيخ «الضباع» شيخ عموم المقارئ المصرية أقنعه، بعدما سمع له تسجيلاً صوتيا، فقام باستدعائه لمنزله وقال له لقد تم اعتمادك فى الإذاعة. وكان ذلك عام 1951.

وبعدها ذاع صيته فى مصر وخارجها. وكانت أول زيارة خارجية له إلى المملكة العربية السعودية ثم انطلق الشيخ من إذاعة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى فيأتينا صوته من المسجد الحرام مرة ومن المسجد النبوى مرة ومن المسجد الأقصى مرة ومن المسجد الأموي مرة. ومن الهند إلى أمريكا ووصولاً إلى أندونيسيا وجنوب إفريقيا، ظل الشيخ يتلو كتاب الله حتى آخر أيامه فى الحياة.

الكاتب الراحل عمنا محمود السعدنى يعكس فى كتابه «ألحان السماء» عن الشيخ قائلاً: هو صاحب صوت جميل، ونفسية طيبة أيضًا. وإذا كان صوتك من معدن الشيخ، فأنت تستطيع أن تدخل التاريخ كصاحب صوت وطريقة من أجمل ما عرفته دولة التلاوة فى تاريخها الطويل.. وهكذا كان الشيخ رحمه الله. ثم يحكى «السعدنى» عن سر من أسرار الشيخ قائلاً: كانت وسيلته فى الاتصال بالناس هى الخطابات، وكان يضع فى درج مكتبه ألف صورة له ويضعها فى خطابات  بلون النبفسج، ويرسل بها إلى محبينه فى كل بقاع الأرض، فهو كان حسن المظهر، جميل الهندام وكانت هذه طبيعة الشخصية، حيث يأتي الاهتمام بالمظهر هنا كطبيعة وليس من أجل الشهرة كما يتصور البعض. وكان يحب الأدب ومعجب بالعملاق عباس محمود العقاد. ومحمد حسنين هيكل وكامل الشناوى. وكان معجبًا بكوميديا فؤاد المهندس.

عدت للابن طارق. وقلت له: ماذا تعلمت منه؟ قال: حب الله ورسوله وكتاب الله وسنته. وقول الحق، والرضا بالمقسوم خيره وشره. لقد علمنا أن الترابط والاحترام والأخلاق وأكل الحلال، كلها عناوين لحياة الإنسان الصحيحة والسليمة. قلت له: هل تواصل مسيرته على دربه فى قراءة القرآن الكريم؟ قال: نعم أقرأ القرآن وأنا متفرغ له وأتمنى أن يحسن الله ختامنا على آياته، صحيح لن نصل إلى مرتبة صوت وحنجرة والدى رحمة الله عليه.. لكن فى النهاية نحاول.

استأذن الشيخ طارق قليلاً عاد بعدها بفنجان شاى لى وينسون له ثم أغلق الكاسيت بعدها انتهى الشريط من ترتيل مولانا الراحل ثم جلس لنكمل كلامنا. قلت.. كانت هذه رحلة الشيخ فى الحياة.. فكيف كانت رحلته مع المرض حتى لقى وجه رب كريم. سكت بعض الشىء، وكأنه يسترجع ذكريات، هى  ـ فى واقع الأمر ـ عبارة عن صور محفورة فى ذهنه، لكنه فيما يبدو يستجمع قواه حتى يتحدث. ثم انتبه لى قائلاً: الشيخ كان قد أصيب بالسكر.. وكان يحافظ على نفسه جيدًا ويلتزم بالعلاج والطعام.. لكن زاد على ذلك إصابته بالتهاب كبدى.. واجتمع الاثنان معا (السكر والالتهاب الكبدى) وبدأت رحلته مع العلاج، كان قبلها قد تعرض لحادث مرور فى الصعيد. قلت: وهل كان لهذا الحادث تأثير ما على صحته؟ قال: اصيبت فيه عينه فقط، يومها كان فى الطريق ما بين الأقصر وقنا، لإحياء ليلة تلاوة. وكان بجوار السائق.. ثم وقع الحادث، فأصيب فى عينه، بعد هذا الحادث، بدأت أمراض السكر والالتهاب الكبدى تدب فى أطراف الجسد الذى عاش على الأرض، ودار على بحارها ومحيطاتها ويابسها من أجل نشر كلمات الله من خلال قراءة كتاب الله.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل