المحتوى الرئيسى

محمد فكراوي يكتب: ناس الغيوان …زاوية الدراويش الجـدد | ساسة بوست

09/09 19:53

منذ 11 دقيقة، 9 سبتمبر,2016

ستظل مجموعة «ناس الغيوان»، وإلى الأبد، تلك العلامة الفارقة في صيرورة التحولات الفكرية والسوسيو اقتصادية التي شهدها مغرب ما بعد الاستقلال؛ إذ كان ميلاد المجموعة في بداية السبعينات تفجيرًا للنهر الخالد «الذاكرة الشعبية»، وترسيما للهوية الجماعية من خلال شكل إبداعي جديد يتمثّل الماضي البسيط، ليؤكد بالقوة والفعل وجوده الحاضر، ملغيًا معه صراع الوجدان ضد الطمس، والاستيلاب والفصامية، لهذا كانت «الغيوان» العلامة الأبرز التي وسمت جيل السبعينات بأكمله، ليس فقط بثورتها الموسيقية والجمالية، ولكن، أساسًا، بحمولاتها النقدية وأبعادها الصوفية والحنينية.

تمثّل سنة1972 لحظة الميلاد الرسمي للمجموعة، بالرغم من أن وجودها الفعلي والحقيقي يرجع لسنتين قبل هذا التاريخ، حين تسللت ناس الغيوان إلى العالم الثقافي في هيأة «أخويـة» ذات أهداف روحانية/زاوية. ومن هنا كانت ازدواجية التسمية التي تقدّمت بها إلى المتلقّي: «الدراويش الجدد، ناس الغيوان»، في إحالة على البعد الصوفي للمشروع الفني للمجموعة، وانصهارًا وجدانيًا وفكريًا في بوتقة الهيكل العام للزوايا، دون أن تتوقف عند ما هو ديني روحي محض، بل تتجاوزه للدخول في صراع مع النموذج الرسمي السائد. فكانت هذه اللحظة واحدة من فعلات الزمن، مكنت المغرب الأقصى من طريقة صوفية جديدة، وغير مسبوقة، لها مقدم وشيوخ وأتباع ومريدون، هي الزاويـــة الغيوانيـــــــة.

الزاوية التي استطاعت أن تمنح جمالية لطقوس لم تكن معهودة، إلا في مواسم وليالي الحضرة والجذبة، لذلك لم يكن مستغربًا أن تلاقي المجموعة ذاك التجاوب الحار من طرف الجماهير التي ما لبثت أن انخرطت في صراخ وحركات طقوسية لا إرادية كانت تتحول تتحوّل معها خشبات العروض لضريح أو مزار تجتاحه الجموع؛ طلبًا للبركة، وبحثا عن العلاج والتطهير الروحي، في تحرير للجسد من مثالية الأنا، والرقابة الاجتماعية التي تفرض على الممارسات الفنية والجسدية وصاية تصل حدّ التحريم. ومن هنا يستحيل الفصل بين موسيقى الغيوان والجذبة أو تصور الأولى دون الثانية. فناس الغيوان، لم تكن شيئًا آخر، غير دعوة لمعانقة العالم المنبوذ للأغنية المغربية في شخص الحال والجذبة، وكناوة/موسيقى العبيد. من خلال توظيف الغناء والإبداع لصياغة معادلة وجودية جديدة/قديمة؛ هدفها الإفلات من بؤس المادة وتجاوز إثم الحاضر، ورفض تغييب الحدس التخييلي المتحرر من سلطة المنهج والمنطق العقليين وصرامتهما.

ولئن غاب الجانب العنيف عن الحضرة الغيوانية ( تمزيق الثياب والتهام اللحم النيئ كما هو الحال بالنسبة لعيساوة مثلًا) فإنها اعتمدت في المقابل بطقوسها التطهيرية على نوع من «البيزوطاج» الفني كوسيلة لتخلي الشباب بالأساس من المكبوتات والرواسب السلبية للقيم الجامدة للتربية والتعليم التي تفرضها تقليدية المنظومة الاجتماعية. إنها لحظة حاسمة في سيرورة التحولات الاجتماعية بمغرب النصف الثاني من القرن العشرين، لحظة الاعتراف بالفرد كوجود متحرر/ذاتي التحكم/مستقل عن صرامة ونمطية السياق الاجتماعي يمارس كينونته وحرياته (الشعر الطويل لدى الغيواني النموذج مثلًا).

لهذا كان تركيز الزاوية الغيوانية كبيرًا على ضرورة تخليص مريديها من عقد الإحساس بالذنب التي سيطرت على المغربي، والعربي عمومًا؛ نتيجة التحولات الاجتماعية والمعرفية والانفصام بين الاعتقاد الموروث والواقع اليومي,كما هو الحال بالنسبة للممارسات الجسدية التعبيرية التي تناقض هذا المعتقد في كثير من الأحيان.

غنّت الغيوان أول ما غنت «الصينية»

تلك الأغنية التي تقول أكثر من الكثير. الأغنية التي فجّرت الدهشة في وجدان المتلقي من هذا الشكل الغريب/المألوف، الذي يدعوك كأنه الدخان الأزرق للهجرة إلى عوالمه الروحانية؛ هربا من صحراء المدينة وضلالتها، فكانت «الصينية» إعلانًا عن الإجهاز على جاهلية القرن العشرين، سيتلازم، فيما بعد,مع الوقع الصادم للمنظومة الغيوانية، في متنها الموسيقي ونصوصها الغنائية،التي تطرقت إلى مواضيع ومضامين الشبه المحرمة. وهو التلازم الذي أنبأ عن أن شيئًا ما يلوح في الأفق، وأن الغيوان لا علاقة لها من حيث الطرح والتناول بالتجارب الفنية والثقافية السابقة.

لكن، وبالرغم من الصيت والانتشار الكبيرين، الذي عرفته جل إبداعات المجموعة، فإن الأغنية التي تمثل فعلًا ناس الغيوان/القطيعة بتشكيلها في لحظة شاردة لذاك الحد الفاصل بين ما قبل الغيوان وما بعدهم، هي أغنية أو بالأحرى نشيد «قطتي صغيرة»؛ فهذا النشيد وهو يداعب بمكر الطفل داخل وجدان الجمهور المتعلم البالغ، كان يقدم المشروع الغيواني بسخرية لاذعة: فمن خلال «قطتي صغيرة_ اسمها نميرة» فتحت المجموعة حوارًا حميميًا مع المتلقي وأذابت جدران الجليد بينه وبين المبدع.

هكذا تختزل «الصينية» و«قطتي صغيرة» الأسلوب الفني الجديد الذي كانت تبشر به ناس الغيوان. فبالجمع بين الدهشة والوقع الصادم والسخرية المرّة كانت المجموعة تفتح النار بلا هوادة في وجه الجماليات السائدة والموسيقى الهجينة الجامدة. وكما قال عالم الاجتماع «جورج لاباساد»، وهو من أوائل الناس الذين اكتشفوا ناس الغيوان، فإنّ ظهور المجموعة شكّل ثورة موسيقية فنية قادت إلى قلب المشهد الثقافي بالمغرب رأسًا على عقب. كل ذلك في سياق كوني كان يهتز تحت وقع موسيقى شبابية جديدة، بصخبها وهستيرياتها الصوفية أحيانًا والمعربدة أحيانًا أخرى، ترجم في صورة موجات موسيقية ذات حمولات شعبية أو صوفية كنسية، سعت منذ البداية إلى تجاوز الأنماط الغنائية الكلاسيكية، والتحول من سلبية وبرودة التعابير الموسيقية إلى جعل الغناء إعلانًا عن التمرد ورفض المآل الذي وصلت إليه المجتمعات المصنعة، والدعوة إلى تناول الواقع المعاش ومشاكل الفئات الشعبية، والأزمات الإنسانية والوجودية لشباب تلك الفترة، كالعنصرية، المخدرات، الحروب، «المكننة»، وطغيان الآلة؛ فتحوّلت بذلك الأغنية والموسيقى إلى نوع من التمرد والتطهير الروحي في أجواء هستيرية صاخبة.

يعتبر «الالتزام» مفهومًا ونسقًا مؤطرًا للفعل الموسيقي لإبداعات الزاوية الغيوانية، ذو انعكاسات حساسة على بنيتها الفكرية وخلفيتها المذهبية. فما الذي يقصد بالالتزام لدى «الدراويش الجدد»؟ يقصد بالأغنية الملتزمة عمومًا تلك التي تتناول «مواضوعات مرتبطة بالواقع المعاش لدى أوسع القطاعات الجماهيرية، وطرحها برؤية نقدية تهدف إلى التحسس والوعي بها، وبالتالي التحفيز، وربّما التحريض من أجل تجاوزها، أي تغيير ذاك الواقع» «إبراهيم آيت حو»، «إضاءات حول الأغنية المغربية».

وهو ما برز فعلًا عند الزاوية الغيوانية التي أظهرت منذ البداية أنها وأثناء سعيها لالتقاط مواضيع وقضايا الواقع الاجتماعي والسياسي، كانت تعمل على مقاربتها مقاربة نقدية وتقدمية، تحوّلت معها أغاني الزاوية إلى تعبير بالتفويض عمّا في دواخل الأفراد و الجماعة من غبن ومعاناة ومكبوتات. ومع ذلك تبقى الأغنية الملتزمة عند الغيوان أبعد عن حصرها في الخلفيات السياسية أو الإيديولوجية، بل هي شاملة لمجموع الموضوعات والمضامين الفكرية والعاطفية والإنسانية؛ وبالتالي يتحوّل مفهوم الفنان الملتزم إلى محيل على كل مشتغل بمجال الإبداع حريص على تقديم منتج فني تتوفر فيه شروط الإمتاع والمؤانسة والجمال، و ذي صلة عميقة بنبضات الإنسان وأحاسيسه الشقية و السعيدة. أما جعل الالتزام رهين حلقات سياسية وإيديولوجية، فذاك تضييق فكري ومرحلي لهذه الأغنية يفقدها قيمتها بمجرد تجاوز مبرّر مناسبة وجودها. ويصبح الفن الملتزم مناسباتيًا، وطبيعة الفن والدوام والخلود والاحتفالية. لهذا يمكن اعتبار الأغاني العاطفية للسيدة «فيروز» أو الراحل «محمد رويشة» أغاني ملتزمة؛ لتوفر هذين النموذجين على شروط ومقومات الصدق والإمتاع والمؤانسة. لكلّ ذاك آن الآوان للتخلص من ذاك اللبس الذي يقيّد الزاوية الغيوانية ويحصرها في بعدها الثوري فقط، مبخسًا من شأن ركنها الأساس، أي الجانب الروحي والصوفي؛ لأن مؤطر الإبداع عند ناس الغيوان ليس هو الإيديولوجيا، بل ذلك الشيء المروّع الذي «يسكن القلب منذ البداية فيعذبه، ويعذّب الفكر، ينساه ويتجاهله، ثم يبتعد عنه، وفي يوم يعود إليه. هكذا في يوم ما تبزغ شمس الإبداع داخل المخلوق آهلة بكل التناقضات والعجائب، وهكذا يتسرب إلى داخل الجسد والروح، ثم يستوطنها إلى الأبد، ولا إبداع بدون ألم» «العربي باطما/الرحيل».

سنوات الجمر.. حصان طروادة وصراعات قذرة

لم تتردد الزاوية الغيوانية، منذ اللحظة الأولى، في فتح أبوابها أمام المجاذيب والمريدين الذين وجدوا في النموذج الفني الذي تبشر به المجموعة ما لم يجدوه في غيرها من الأشكال الغنائية والتعبيرية التي سبقتها.

غير أن سحبها البساط من تحت أقدام الجميع، جعل الفاعل السياسي وحتى الثقافي يقف موقفًا مترددا وملتبسا من هذا المشروع الفني والمذهبي الجديد,؛ لأن الغيوان وهي تحقّق ما عجزت عنه النخب من إجماع وتعبئة وتنوير، كانت تمارس، في الواقع، ودون أن تعي بذلك، نوعًا من الوصاية المذهبية والفنية على المجتمع الذي بدأت فئات واسعة منه تنفر من الأدبيات الأكاديمية والإيديولوجية الكلاسيكية.

لقد شكل ظهور ناس الغيوان، في بداية السبعينات، إضافة نوعية للنخبة الثقافية المحلية التي كانت حتى وقت قريب تمارس طقوسًا إقصائية في حق التعبير الشعبي والفطري؛ إما بدعوى أنه شكل رجعي يستخدم لتكريس الواقع الموجود والدفاع عنه، وإمّا من موقف أن المبدع فوق العامة يدخل ذاته ويغلقها عليه فيجد الإبداع والإلهام، بشكل يصبح معه الإبداع الفكري والأدبي ميزة الإنسان/المفكّر عن الإنسان/اليدوي.

ونتيجة لذلك تمت شريحة واسعة من الطبقة الشعبية من الإنتاج الإبداعي، كما تم ولزمن طويل، تهميش الأدب الشعبي كأن لم تكن تتوفر فيه شروط الأهلية للانضمام إلى المدينة المحرّمة للثقافة المغربية.

لكن مع الغيوان ستسقط كل الحواجز أمام مثقف الهامش المفتقد للتكوين الأكاديمي للبروز كجيل جديد من المثقفين المحليين. جيل وسمه التوجه نحو الفرد و النماذج القادمة من العوالم السفلى كتيمة وموضوع، لا مجرد خلفيات مهمشة أو ديكورات تؤثث الفضاءات الإبداعية. وليس من قبيل العبث أن تتزامن فورة المجموعات الغنائية، في السبعينات، وانطلاقة ظاهرة الفن التشكيلي الفطري مثلًا، في تقاطع فني ثلاثي الأبعاد «الإنسان، الأرض، التعبير» بين العيطة والحنّاء، ولقاء فكري يمزج بين الإيقاع واللون والجسد. بشكل جعل من السبعينات لحظة مراجعة الذات لعلاقتها بالجذور الشعبية والتأسيس للمفاهيم والمرجعيات التي أكسبت المجال الثقافي المحلي اعتدادا وثقة في إبداعاته كفاعل/منتج ليس فقط منفعلًا/مستهلكًا لما تأتي به رياح المشرق والشمال.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل