المحتوى الرئيسى

ثائر ديب يكتب: عن التحليل الطائفىّ للطائفيّة | المصري اليوم

09/08 01:00

طوّر المفكّر الماركسى اللبنانى، مهدى عامل، مفهومه عن «الطائفة» و«الطائفية» بين أواخر سبعينيات القرن العشرين وأواسط ثمانينياته. جرى ذلك فى تفاعل وتراسل بين واقع الحرب الأهلية اللبنانية من جهة، وعدّته النظرية المفهوميّة التى كان قد طوّرها قبل ذلك حول ما سماه «نمط الإنتاج الكولونيالى»، ذلك الشكل المتميّز من حضور «نمط الإنتاج الرأسمالى» فى بلداننا.

يهمّنى هنا من رؤية «عامل» إلى «الطائفة» فى سياقها اللبنانى اعتباره إيّاها («الطائفة»، وليس «الطائفية»، لاحظوا) علاقةً سياسية محددة مرتبطة بالصراع الطبقى فى شروط البنية الاجتماعية اللبنانية، وانتقاده الجذرى كلَّ نظرٍ إليها على أنّها كيان اجتماعى قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية، عميق الجذور فى وجوده، متكرر بلا تغيير، أو على أنّها جوهر أو وحدة أوّلية بسيطة يتكوّن منها المجتمع ويتعدّد بتعددها (كما يفترض الكلام الرائج على «المكوّنات» المتعددة، التى تشكّل قوام مجتمع ما، وكما يُشيع دعاة إدارة التعدد).

تنطوى رؤية «عامل» هذه على نقد جذرى لثلاث نزعات مترابطة وشائعة فى النظر إلى المجتمعات متعددة المذاهب، ليس لدى البشر العاديين فحسب، بل لدى المثقفين أيضاً بمَن فيهم المختصون. أولى هذه النزعات هى «الفهم الشائع» (common sense)، الذى يعتبر المجتمع أمراً بيّناً بذاته، ظاهراً وبدهياً، وكذلك طوائفه، وثانيتها هى «الجوهرانيّة» (essentialism)، التى ترى الطوائف على أنّها جماعات محدّدة الحدود، قديمة ومتكرّرة فى التاريخ، بلا تغيير يُذكَر؛ وثالثتها هى «الجماعويّة» (groupism)، التى تأخذ ما تعتبره جماعات محددة الحدود على أنّها الوحدات الأساسية للتحليل والمكوّنات الأساسية للعالم الاجتماعى، وبذلك تتصوّرها على أنّها كيانات متجانسة داخلياً تُنسَب إليها المصالح والأفعال والأغراض الجمعية الموحَّدة.

هكذا، ينطوى فهم «عامل» على تشكّك وتمحيص ضروريين فى مفهوم «الجماعة» ذاته (هنا الطائفة) وما يفترض هذا المفهوم وجودَه فى العالم الفعلى، فهما ليسا بديهيين، بل إشكاليان إلى أبعد حدّ. ذلك أنَّ الجماعات ليست «أشياء واقعية موجودة فى العالم» وليست جوهريّة، بل مبنيّة بناءً، وطارئة، ومتغيّرة قُلَّب، ومنقسمة متشظية، وعابرة بلا أشكال ثابتة ولا حدود واضحة. وكذلك فإنَّ «الوجود فى جماعة» أمر إشكالى متغيّر وليس ثابتاً، فلا يمكن افتراضه مسبقاً. وهو يتنوّع لا عبر الجماعات المفترَضة فحسب، بل ضمن كلّ منها، ويمكن أن يخبو ويزول بمرور الزمن، وأن يشتدّ فى لحظات معينة.

وهذا يعنى أنّ الطائفية لا تقتضى مثل هذا «الوجود فى جماعة»، فهى لا تعمل فى الجماعات المحددة بحدود أو من خلالها فحسب، أو حتى بصورة خاصة، بل تعمل فى تصنيفات، وترسيمات معرفية، ومواجهات، وتماهيات، ولغات، وأُطُر خطابية، وسرديات، ومؤسسات، وتنظيمات، ومشاريع سياسية، وشبكات، وحوادث طارئة ومن خلالها. وباختصار، فإنَّ ما تعنيه «الطائفة» لا يُطَال من خلال مفهوم «الجماعة» المتميزة الملموسة ذات الحدود، بل بمصطلحات علائقية، سيروريّة، ديناميّة، حدثيّة، صراعية وانقسامية. ودراسة الطائفية- بما فى ذلك الصراع الطائفى- لا ينبغى أن تُختَزَل إلى دراسة الجماعات الطائفية، أو حتى تتركّز عليها، فالصراع الطائفى ليس بصورة أساسية، «جماعات طائفية فى صراع».

تصوير الصراعات الطائفية و«تحليلها» على أنّها صراعات جماعات طائفية هو فى النهاية- ومهما تنكّر خلف الشعارات المواطنيّة والشهادات العلمية- نوع من الكلام الطائفى على الطائفية. وهو أمر لا يفسِّر شيئاً بل يحتاج هو نفسه إلى التفسير. ذلك أنّه مُعطى تجريبى وعنصر من عناصر الموضوع المدروس وليس أداة أو مقولة تحليلية، شأنه فى ذلك شأن أفهام الفاعلين الطائفيين وأدواتهم التعبوية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل