المحتوى الرئيسى

ضد نظرية القطيع

09/07 09:24

كنت الأسبوع الماضي أتسوق في إحدى الأسواق الكبيرة، حين لفت سمعي وبصري أب عربي يتحدث مع طفليه بلغة إنجليزية جميلة، ونظرت للطفلين فوجدتهما لم يتجاوزا سبع أو ثماني سنوات على الأكثر، ابتسمت ونظرت لزوجي ووجدته مبتسمًا أيضًا. وتابعت طريقي لأتسوق مشتروات الأسبوع كعادتي، وعلى بعد عدة أمتار وجدتهم ثانية والأب ما زال يتحدث معهما الإنجليزية بعد أن ضرب الصبي الكبير أخاه الصغير، ليرد أبوه بكل انفعال إنجليزي بارد "Happy Now! Sit!" ووجدت نفسي مع نفسي ومع زوجي في مناقشة طويلة عريضة عن هذه الأسرة العربية التي تعيش في دولة عربية، ويحوطها من كل جانب عرب في عرب، حتى الأجانب منهم ومن يتحدثون الهندية والإنجليزية واليابانية يتحدثون العربية بسبب اختلاطهم بالعرب، هم يتحدثون بكل فخر الإنجليزية.

أنا أفهم بالطبع أن نوايا هذا الأب حسنة بالتأكيد، فهو يريد أن ينمي ما نسميه الطلاقة في اللغة، أي أن يعتاد أبناؤه التحدث باللغة في أي وقت وأي موقف، فعلى ما يبدو لي أنهما تلميذان في إحدى المدراس الدولية المنتشرة هنا في الخليج، والتي أظن أنها منتشرة في مصر بالطبع. ولكن استفزتني الفكرة العظيمة، هل أصبحنا بلا قيمة إلى هذا الحد وهذا المستوى؟ هل ما تبقى من لغتنا العربية عار على كل أب وكل أم مما دفعهم للحديث بالإنجليزية مع طفليهما؟

أنا لست ضد اللغة، على العكس -أنا معلمة لغة إنجليزية وتخصصي اللغويات- أحب اللغة وأعشقها، بل وأعترف أنها فتحت لي المجال لأشياء شتى أولها العمل وأهمها العلم. ولكن لم يسعَ أبي أو أمي في أي وقت للتحدث معي الإنجليزية ولا الفرنسية، حتى في أي وقت من الأوقات. بل لقد كنت في يوم من الأيام أكره تلك اللغة اللعينة التي لم أفهمها قط في مرحلة من مراحل حياتي، ولم أكن أتوقع أن أكون معلمة لها في يوم من الأيام. بل والأغرب من ذلك أنني عندما أحكي لطالباتي عن هذا الشيء يعتقدون أنني أمزح لأنني -والحمد لله- متفوقة جدًا في اللغة، ولكنني أكون جادة معهم، أنا أريدهم أن يعرفوا أن كل شيء في هذه الحياة ممكن.

تعلم اللغة شيء ليس بالصعب ولكن في الأساس لماذا نتعلم اللغة؟

اللغة والإنجليزية بالتحديد، هي أداة من أدوات العلم، وذلك لأنها لغة البلاد المتقدمة، ولذلك نحن نتعلمها لنتعلم العلم، صحيح وحقيقة. ولكن اللغة ليست أبدًا مجال الفخر والتفاخر، وليست أيضًا انعكاسًا لثقافتك العالية أو مستواك المادي العظيم، حيث يدفع أبواك أموالاً طائلة لتلتحق بمدرسة عالمية، لتصبح "مفيش زيك ولا قبلك ولا بعدك في اللغة"، انتبهوا أيها الآباء أعزكم الله.

أنا ضد محو الثقافة والحياة العادية لنتعلم اللغة، وإلا فمن باب أولى أن تتحدث مع أولادك عن العلوم والمعادلات والاقتصاد وكل المجالات التي عليهم أن يتعلموها. أنا ضد ما أراه يوميًا بعيني ولن أفعل ذلك مطلقًا مع ابني إن شاء الله. أنا ضد محو الهوية العربية التي لم يتبق منها -مع الأسف- إلا اللغة الجميلة التي بتنا كآباء وأمهات ندمرها شيئَا فشيئًا، ولا أدري لماذا!

اللغة العربية من أجمل لغات العالم، فهي التي تتمتع بثراء وموسيقى قمة في الروعة، أصبحنا لا ندركها ولا نفهمها. بل وأصبح البعض يعلنها صراحة "ابني مش بيفهم العربي خالص.. كله إنجلش بس"، يا للهول! أتفتخرون بضياعنا؟ دعوني أسألكم جميعًا ماذا لو أصبح أطفالنا يتحدثون الإنجليزية أو الفرنسية أو أي لغة كانت في كل مواقف حياتهم، إلى ماذا سنصير نحن؟ ولأي سبب على وجه التحديد نقوم نحن بذلك؟ ما القيمة التي تدعها تدخل عقل طفلك عندما تتحدث معه بلغة غير لغته الأم؟ هل سيكون تشرشل الثاني أو أوباما الثالث؟ لا أدري! هل يقوم كل مربٍّ فاضل على وجه البسيطة في الجانب الآخر من الكوكب (أعني الدول المتقدمة المتحدثة بالإنجليزية) بالتحدث مع أبنائهم بأي لغة يريدون له أن يتحدثها بهذا الشكل؟ لا أعتقد!

ماذا عن الأم التي لا تتحدث الإنجليزية بطلاقة وتصّر إصرارًا غير عادي على التحدث مع أبنائها بالإنجليزية، مرتكبة جرائم في حق اللغة نفسها ومستمرة فيها؟ لا أدري مرة أخرى.

نعم أنا ضد ثقافة القطيع! أنا ضد أن أتحدث الإنجليزية في حياتي اليومية، وضد أن أستخدمها خارج الموقف الذي يستدعي، فهي ليست مدعاة للفخر، بل أعتقد مدعاة للحزن. فأعلم بعض الأشخاص الذين يقولون الكلمة بالإنجليزية مرددين "مش عارفة معناها بالعربي" يا للهول!

أحب العربية والإنجليزية والفرنسية، وأتمنى أن يحالفني الحظ وأدرس الأسبانية، ولكنني لن أتوقف عن الكلام بالعربية مهما استغرب البعض عند سماع لكنتي الإنجليزية السليمة، فهم يعتقدون لأنني مصرية ولأنني لا أرطن فأنا أكيد غير متمكنة على الإطلاق.

أهم أخبار مرأة

Comments

عاجل