المحتوى الرئيسى

اغتصاب مصر (سعاد-5) | المصري اليوم

09/06 01:28

عشت مع سعاد حسني فترة طويلة، كانت تشاركني فيها حتى في أحلامي، كنت أعلق صورها على كل الجدران المحيطة بي بحيث أراها في كل لحظة، وكان صديقي المخرج المثقف ناصر كامل يضحك ويحكي كيف كان "آل باتشينو"، في أحد أفلامه، يعلق صور المجرم الذي يطارده (بنفس الطريقة والهاجس الذي يسكنني) حتى يظل المجرم حاضراً في ذاكرته طول الوقت.

لم أكن ضابطاً، ولم تكن سعاد مجرمة.. لم أكن معجباً بها كممثلة، ولم تكن نجمتي المفضلة، لم أكن صياداً يبجث عن فريسة، لكن باحث يفتش عن إجابات، ويستعد للغوص في أعماق شخصية مركبة، لا تقل حياتها الواقعية دراما وإثارة عن حيواتها المتعددة على الشاشة، في تلك الفترة قرأت كل خبر عن سعاد، قرأت كل جملة حوار نطقت بها، شاهدت أفلامها وأحاديثها التليفزيونية، استمعت إلى الكثيرين ممن عرفوها عن قرب، وفي كل مرة كانت صورة سعاد الأسطورية تنتصر على المعلومات الواقعية الجافة، كانت سعاد بكل ضعفها وهشاشتها تزداد قوة، وتفسح فضاءً مفتوحا يتسع لشمس "البهجة البمبي" ولغيوم أسطورتها الرمادية التي تتغذى على الشائعات والأكاذيب وأطماع الآخرين وأخطاء الذات، تهضم كل هذه المتناقضات، وتتمثلها ببساطة مذهلة لتصنع منها قوس قزح مبهج وحزين في الوقت نفسه، قوس يشبه وشاحاً متعدد الألوان على صدر الأفق عند اللحظة الفاصلة بين الظل والنور، لا يكتفي باللون الواحد الذي ينبعث من لمعان النجمة الفضية، لكن وسط ذلك البريق، وقع في حياة سعاد حادث مخطط، كان الاقتراب منه يصيبني بحالة اكتئاب أسود يستمر أياماً، وكنت خلالها أسأل نفسي: كيف تمكنت هذه الفتاة الغضة (العيلة كما وصفها حسن الإمام في تلك الفترة) أن تقف على قدميها بعد تلك الطعنة، وأن تواصل تمثيل البهجة والمرح بعد ذلك الشرخ العميق.. بعد ذلك الانكسار المُهين الذي أصاب شيئا ما، في مكنون القلب.. في جوهر الروح؟

في خريف 1963 كانت سعاد قد صارت نجمة لامعة، برغم عمرها الفني القصير، فقد بدأت قبل 4 سنوات فقط، مع عرض أول أفلامها "حسن ونعيمة" في ربيع 1959، ثم توالت عليها عروض المنتجين بغزارة فقدمت خلال هذه الفترة القليلة أكثر من 20 فيلماً، منها القصة الثالثة من "البنات والصيف" مع عبد الحليم حافظ، من إخراج فطين عبد الوهاب، وهو الفيلم الذي شهد ميلاد قصة الحب الخالدة بينها وبين العندليب الأسمر، وكأن أفلامها مع فطين عبد الوهاب كانت محطات مؤثرة في رحلة حياتها، فقد تألقت معه "إشاعة حب"، ومرت بلا تأثير كبير في "الضوء الخافت"، ثم عادت للتألق في "عائلة زيزي"، وبينهما 20 فيلماً تراوحت بين خفة طلبة رضوان، واجتماعية عاطف سالم السبع بنات، ورومانسية حلمى حليم والأخوين ذو الفقار (عز ومحمود)، وشقاوة حسام الدسن مصطفى، وميلودراما حسن الإمام، وتنويعات نيازي مصطفى، في تلك الفترة وفي أوج النجاح تعرف سعاد بترتيب من إحدى صديقاتها على منتج فرنسي، ألقى عليها شباكه، وكرر تعويذته المخادعة بمهارة المحترفين، فمزج إغواء الطموح والمجد الفني بماء الغرام، وفي ذلك الوقت، كانت سعاد تعيش حالة من التوتر العنيف في علاقتها العاطفية بنجم النجوم عبد الحليم حافظ، فانساقت في علاقتها المتسرعة بالمنتج المزيف، وعندما قبلت الذهاب معه للسهر بعيداً عن العيون في مسكنه بمصر الجديدة، لم تكن تعرف أن الشقة ليست إلا وكراً لاصطياد الحمامات، حيث غابت عن الوعي، واستيقظت عارية على هزات عنيفة وأصوات غليظة، جاءت لضبطها متلبسة بالفضيحة، وكان رئيس جهاز المخابرات بنفسه على رأس القوة التي داهمت وكر الشيطان.!

لم تبك سعاد في تلك اللحظة، فقد تحولت النجمة إلى "ثقب أسود" فراغ مخيف ملأ روحها وهي ترى نفسها تسقط كالنيزك الملتهب من علو شاهق، لكنها لم تصبح حجراً أو حفنة من تراب، تمالكت نفسها في مشهد يشبه جيسكا لانج وهي ترفع رأسها بكبرياء بعد اغتصابها الخسيس من أعوان الملك الإنجليزي في فيلم "روب روي"، لاستدراج زوجها إلى فخ محكم أعده الإقطاعي الخائن، للتخلص من مقاومة الفلاح الأسكتلندي الشريف "روب روي"، فقد طلبت سعاد أن ترتدي ملابسها كما جاءت بها، وأن تضع مكياجها، قبل أن تخرج من الشقة إلى مكتب في إدارة المخابرات العامة، لاستكمال إجراءات تجنيدها للعمل، بعد السيطرة عليها بهذه الخدعة الحقيرة.

بعد أيام من التوتر والكوابيس تجاوزت سعاد مظاهر الصدمة، ولملمت أطراف اللعبة، لكنها لم تعد سعاد الغريرة التي تلاعبت بها "رفيعة هانم" صائدة الفراشات، وخفافيش الظلام المزيفين من أشباه الرجال، وهي القصة التي سأعود إليها تفصيلاً في موضعها الزمني ضمن رحلة التحاور والتفاعل مع حياة سعاد الإنسانة والفنانة، لكنني الآن، أتوقف عند مشهد الاغتصاب الحقير، الذي كررت سعاد تجسيده (بصورة أو بأخرى) أثناء تصوير اغتصاب "زينب دياب" في فيلم "الكرنك"، وفي كل مرة أستدعي فيها المشهدين بالتوازي، تنقر قلبي بمناقيرها المدببة أسئلة صعبة: كيف ظلت سعاد بعد هذا الحادث تحب عبد الناصر؟، كيف تسامحت مع زمنها واستمرت تعلن باعتزاز أنها "بنت ثورة يوليو"؟، كيف عاشت العصفورة حتى جولة التحليق الأخيرة، تحلم بالعودة إلى مصر، تشدو لها بالصوت والقلب، وتعتبرها عش الأمان وبلد الحلم الجميل؟

صعدت سعاد في نهاياة الخمسينيات، كما صعدت الجمهورية العربية المتحدة، وانكسرت في أواسط الستينيات، كإنذار مبكر لانكسار الجمهورية العربية المتحدة، كان الانكسار هزيمة أو نكسة؟، لاتهمني المسميات الآن، يهمني أن سعاد كمصر في ذلك الزمان لم ترضخ للهزيمة، ولم تستسلم للضياع ومشاعر الحقد الأسود، كانت أكبر من جلاديها، تحملت جراحها، وتعاملت بنبل وتسامح وعزة نفس، وهي تنظر إلى المستقبل، صحيح أنها عرفت طريق عيادات الطب النفسي، حتى صارت صديقة للدكتور مصطفى زيوار، لكنها أبداً لم تبادل الظلم بحقد، ولم تقذف مصر بالوحل الذي حاول بعض المنحرفين أن يصموا به سعاد ومصر معاً، وعندما التقاها مفيد فوزي في باريس مطلع التسعينيات، وحاول أن ينكأ جراح السياسة، ويسألها بغمز عن يوليو وعبد الناصر، ردت بحسم: "شوف.. أنا كفنانه، يتلخص جمال عبد الناصر فى كيانى، إنه كان يدافع عن الكرامة المصرية، وقبل ذلك بسنوات عندما سألتها نعم الباز فى رباعيتها المنشورة بمجلة الكواكب (26 مايو 1987) عن الشخصية التى أثرت فيها ردت بحماس، وصفته الباز قائلة: "كأنها تهتف، وتلغى أى شخصية أخرى تخطر على بالى، حيث قالت: عبد الناصر، فأنا بنت الثورة، وأكملت سعاد إجابتها بالغناء: "عبد الناصر حبيبنا، قايم بينا يخاطبنا، نجاوبه ويجاوبنا، قائد ومجندين".

هل كانت سعاد تعاني من متلازمة ستوكهولم، بحيث صارت مختطفة تتعاطف مع خاطفها؟، أم أنها تسامت إلى درجة لا يقدر عليها من البشر إلا النبيون والصديقون والفنانون الحقيقيون؟.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل