المحتوى الرئيسى

إدارة الفقر في بلادنا؟ | المصري اليوم

09/06 00:10

على مدى العقود الستة الماضية كانت وظيفة السلطة العامة فى البلاد هى إدارة الفقر والفقراء ومحدودى الدخل، وما يطلق عليهم أحيانا أهل مصر «الغلابة» و«الطيبين». وحتى عندما يشرع الحكم فى موضوعات أخرى تنمى ثروات البلاد فإن الاعتذار دائما كان واجبا بأن ذلك لا يخل بالاهتمام العام بغير المحظوظين فى مصر. ويكون الاعتذار حادا وكبيرا وشاملا عندما تشرع الدولة فى خطوة من خطوات الإصلاح الاقتصادى، فإن عليها أن تعلن صباح مساء أن ذلك لن يمس الفقراء. والعجيب أنه عندما تحسنت الأحوال الاقتصادية وتصاعدت معدلات النمو قفز أهل البلاد فورا إلى أن ذلك لم يصل إلى الغالبية من الشعب الفقراء أيضاً؛ وكأن النمو الهائل فى السياحة لم ينعش أحوال العاملين فيها أو هؤلاء المتعاملين معها، وامتد هذا إلى قطاعات البناء والتشييد، والصناعة خاصة التصديرية منها وحتى الزراعة عندما جرى تحرير أسعارها، وقطاعات أخرى كان ضرورياً لكى يرتفع معدل النمو أن يكون نتيجة النمو فى قطاعات إنتاجية بعينها فيها العمال والموظفين والمصممين، وكلهم كان بالضرورة يصيبهم من النمو عائد. ولكن الشكوى بقيت قائمة لأنها تحافظ على اللحن القومى الشكاء البكاء طوال الوقت؛ وكانت الحالة من القوة حتى إن أهل الحكم كانوا يرددون ذات الحديث مهما كان تناقضه مع الأرقام المتاحة.

وعندما بدأت المباحثات مع صندوق النقد الدولى سارت البلاد على نفس المعزوفة، ولكن اللحن أصابه بعض من التغيير بإضافة حالة من السخط على جماعة «المطبلاتية» أو المتملقين والمنافقين لنظام الحكم؛ وبالمقابل فإن هذه الجماعة كان لها هجومها هى الأخرى على جماعة «المشككين» أو هؤلاء الذين لا يرون فيما يجرى فى البلاد إلا جانبه المظلم، وبالطبع يرونه مضادا لمصالح المحرومين من المصريين. الحقيقة أن كلتا الجماعتين لا تختلفان كثيرا فى جوهر الموضوع، وما يختلفان حوله هو المدى الذى تصل إليه الدولة فى الدفاع عن مصالح الفقراء، وبينما يرى المطبلون أنها لا تنام الليل من أجل خدمة هؤلاء، أما الآخرون فإن رؤياهم هى أن ما تقوم به الدولة لا يقترب من بعيد أو قريب من مصالح الفقراء والمساكين من أهل الوطن. جوهر الموضوع واحد، ولكن الشكوى دائمة، خاصة من الإعلام الذى يتبادل كلا الفريقين الهجوم عليه باعتباره دوما يميل إلى وجهة النظر الأخرى مُطبلا أو مشككا. والمحتمل فى كل الأحوال ليس فقط أن الجمال لا يعتمد فقط على عيون الناظرين، وإنما لأن كلا الفريقين لا يشير إلى الإعلام الذى نعرفه، والمختلط والمتنوع فى توجهاته، وإنما إلى إعلام آخر يجرى فى وسائل التواصل الاجتماعى والذى فيه جماعات كثيرة منفلتة لا تستطيع العيش إلا وسط حالة من الاستقطاب الحاد.

المدهش فى الأمر كله أن المعركة التى جرت بين المطبلين والمشككين نادرا ما ترى فيها محاولة لتحرير القضية. نادرا ما سنجد من يذكر شيئا عن مسيرة الفقر فى بلادنا، وكيف على سبيل المثال أن الفقر أخذ فى التراجع خلال التسعينيات من القرن الماضى حتى وصل إلى ١٧% من عدد السكان فى عام ٢٠٠٢، وفى تقارير الأمم المتحدة كان التفاؤل كبيرا أن مصر فى سبيلها إلى تحقيق ما عرف بأهداف الألفية مع حلول عام ٢٠١٥ والذى كان يستهدف تخفيض عدد الفقراء إلى النصف (بالمناسبة حدث ذلك بالفعل وتخرج من الفقر ملياران من البشر خلال الربع قرن الأخير من دول العالم كثيفة السكان خاصة الصين والهند). ما حدث عندنا كان مختلفا وهو أن نسبة الفقر أخذت فى الارتفاع مرة أخرى حتى بلغت ٢٠% من عدد السكان عشية ثورة يناير ٢٠١١. والآن وبعد خمس سنوات من الثورة الأولى، وعامين ونصف من الثورة الثانية فى يونيو ٢٠١٣، فإن نسبة الفقر أصبحت قرابة ٢٨% (الأرقام كلها من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء والمقبولة بشكل كامل من المنظمات الدولية). ارتفعت نسبة الفقر فى البلاد، ومن الناحية المطلقة فإن عدد الفقراء زاد كثيرا عندما ارتفع عدد السكان من حوالى ٧٠ مليون نسمة إلى ٩٢ حاليا. ولكن الحقيقة التى لن يذكرها أحد أن قرابة ٧٠% من أهل مصر ليسوا فى عداد الفقراء أو ما يعنى ٦٤ مليون نسمة، بعضهم قريب من حد الفقر، والبعض الآخر يمثل شرائح متنوعة من الطبقة الوسطى، حتى نصل إلى جماعة من الأغنياء.

وطالما أن تحرير القضية كان دوما نادرا، فإن معرفة ما قامت به الدولة وحكومتها تجاه الفقراء لم يتم التعرض له أبدا لا من حيث الكفاءة ولا من حيث الفاعلية. ما جرى دوما عرضه هو الفارق بين الفقراء والأغنياء، أو مدى التحيز فى السياسات التى خلقت هذه الحالة التعيسة من الفقر. فى الدول الأخرى الرشيدة فإن نقطة البداية هى الموازنة العامة فى الدولة وكيف يكون توزيع إنفاقها بين الشرائح الاجتماعية المتنوعة، وبين أقاليم الدولة المختلفة. وفى بلادنا حيث الفقر إقليمى النزعة فإن توزيع الإنفاق العام كان دائما متحيزا لصالح العاصمة على حساب بقية البلاد، والحضر على حساب الريف، والشمال على حساب الجنوب. أسباب ذلك ليس موضوعنا الآن، ولكن هذه السياسات العامة كانت ما جرى عليه الحال فى العهد الملكى والآخر الجمهورى الرجعى والثورى.

الموازنة العامة للدولة فاضحة فى انحيازها للفقراء ومحدودى الدخل، وبالمناسبة فإن تعبير «محدودى الدخل» هو الاسم الاقتصادى لجماعة العاملين فى الحكومة والقطاع العام والهيئات العامة، وكل من يتلقى أجرا من الدولة. وبقدر من التبسيط فإن الميزانية العامة للدولة موزعة إلى أربعة أجزاء تقريبا متساوية: الدعم «للفقراء»، والمرتبات لمحدودى الدخل أى الموظفين، وخدمة الدين العام الذى هو محصلة الفارق ما بين الإيرادات والمصروفات والذى تغطيه الدولة بالاقتراض من البنك المركزى أو البنوك العامة ومن ثم يكون عليه فائدة سنوية واجبة الدفع، والربع الأخير لكل شىء آخر فى الدولة من الإنفاق على الخدمات التى تقدمها الدولة من تعليم وصحة وهى مجانية لخدمة الفقراء، أو الاستثمار والحفاظ على البنية الأساسية. هل يوجد فى هذا التوزيع مشكلة أو معضلة أو أنه يوحى بإرسال الأموال إلى الأغنياء وليس الفقراء. الكفاءة فى الإنفاق أمر آخر، ولعل ذلك هو القضية الأساسية لأنه بعد عقود طويلة من هذا النمط من الإنفاق فإن الفقر يتزايد ومعدلات النمو تتواضع.

تحرير القضية أيضا يستوجب أن نعرف ما تفعله الدولة بالإضافة إلى ذلك من أجل الفقراء سواء كان ذلك له علاقة بوزارة التضامن الاجتماعى والتى يقع عليها مهمة ليس فقط الفقراء وإنما الأهم الأكثر فقرا من الفقراء، وهذه تقوم على شبكة من الإنفاق الحكومى والضمان الاجتماعى من ناحية، وعلى مظلة مكونة من قرابة ٤٧ ألف جمعية خيرية وتنموية تعمل غالبيتها فى مجالات تتصل بإعانة ومساعدة من كانت أحوالهم تنتمى إلى الفقر المدقع. وكذلك فإن المؤسسات الدينية والمسيحية تقوم بدور كبير فى إعانة الفقراء بأنواعهم المختلفة، مستخدمين العاطفة الدينية لدى المسلمين والمسيحيين. وفى النهاية، أضف لكل ما سبق معونات ومساعدات تأتى من دول عربية شقيقة خاصة خلال شهر رمضان وفى مناسبات أخرى.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل