المحتوى الرئيسى

«هيكل» فى «طرة».. قصة الأيام المُثيرة من خريف 1981 | المصري اليوم

09/04 22:20

لم يُتَح لصحفى مصرى على مدار تاريخ الصحافة المصرية مدى القُرب والتأثير الذى أُتيح لمحمد حسنين هيكل فى عصر الرئيس المصرى جمال عبدالناصِر، فالمحرر العسكرى الذى رافق ضباط حركة الضباط الأحرار فى ميدان القتال فى حرب فلسطين، أصبح نديم جمال عبدالناصِر والعنصر الإعلامى فى مشروعه الجمهورى، ليحيك بدقة وبلاغة فى آن أهم لحظاته، ويعرف أدق أهم أحداثه التاريخيّة، فهزيمة يونيو «نكسة» لأن «هيكل» رآها كذلك، وخطاب التنحى دفع بالجموع الغفيرة للشارع معارِضةً للقرار ومعفيةً قائدها من بعض المسؤولية، بفضل غيض من فيض قلم «الأستاذ» صائغ الخطاب الشهير.

وكما وهب تقارُب «ناصِر- هيكل» للدولة الناصرية الشىء الكثير من صلابتها وشعبيتها، أهدى هذا التقارُب «الأستاذ» مفاتيح خزانة وثائق تأسيس جمهورية يوليو وكواليسها، يتحكّم فيها منفردًا ويقوم فيما يخُصها بدور «حارس البوابة»، يفرِج عما يراه مناسبًا، ويتحفّظ على ما يراه مضرًا بالأمن القومى، أو لم يأنِ أوانه بعد.

غير أن هيكل ناصِر، مستشاره الأمين، ووزير الإرشاد القومى فى حكومته، ورئيس تحرير المطبوعة الصحفية الأهم فى عهده «الأهرام»، لم يحظَ بالمكانة ذاتها فى جمهورية السادات، فحسب هيكل، فإن آخر مقالات الصحفىّ المُخضرَم فى عهد الرئيس السادات تُنشَر بالأهرام كانت عام 1974، وانتقَد فيها استضافة السادات لـ«كيسنجر» مُطارَد فضيحة «ووترجيت»، بطلاً بمصر، واصفًا إياها بـ«عدم تقدير سياسى من قِبَل السادات»، لم يُتَح لـ«هيكل» الكتابة من بعد نقدها حتى أفول جمهورية السادات باغتياله فى حادث المنصة 6 أكتوبر 1981، كفصل ختامىّ تابعه الصحفىّ الكبير من محبسه فى سجن طُرة بأمر من رئيس الجمهورية، فى حملة اعتقال موسّعة، شملت شخصيّات عامة مصرية، اتُفِق على وصفها يومها بأنها شخصيات تزعزع «وحدة وأمن البلاد»، فيما اصطُلح على تسميته «اعتقالات سبتمبر 1981».

ولطالما أصرّ «الأستاذ» على نفى أى خصومة غير موضوعية بينه وبين السادات، وتأكيد خلُو العلاقة بينهما من أى شائبة كراهية شخصيّة بينه وبين الرجُل، فيما كان ما بينهما محض خلاف فى وجهات النظر، حتى ولو رأت الجماعة العامة غير ذلك.

فى كتابه «خريف الغضب.. قصة بداية ونهاية عهد السادات»، يُبرهِن هيكل على سلامة جانبه تجاه السادات فى بداية عهده بتصريح صحفىّ للرجل نفسه فى المطبوعة الصحفية اللبنانية «مجلة الأسبوع العربى»، بعد أربع سنوات على حُكمه، قال فيه إن هيكل هو أقرب شخص له، فضلاً عن دوره المؤثر كمهندس لحملته الانتخابية ووزير للإرشاد القومىّ، وإسهامه المؤثِر فى وضع الخُطط الإعلامية لحرب أكتوبر. ليُحفِظ الرجُل الأداء الرئاسى إبان مُباحثات السلام، فيقرر، حسبه، الاعتذار عن صوغ المشهد الرئاسى لرجُل يحب الوطن بطريقة غير التى يحبه بها هو الوطن، على الأقل، كمستوى أول لتعارُض وجهات النظر، أودى به أخيرًا ممنوعًا من الكتابة، ومتنحيًا عن تحرير الأهرام، وممنوعًا من السفر، وماثلاً للتحقيق أمام المُدعى العام الاشتراكى أحيانًا، كما حدث فى 1978، فى النصف المتأخِر من مدة حكم السادات.

اعتبر هيكل أن غضبًا أورثه السادات للشارع، وأصبح هو جزءًا منه، كان بداية النهاية للرجُل، بعد استعداء قدرىّ للشارع بدأ باندلاع مظاهرات الطعام 1977، والجماعات الدينية، والكنيسة المصرية، ورموز التيارات السياسية، وانتهى بما سماه هيكل «عقلية الهليكوبتر»، كنايةً عن السمة الغالبة على أداء السادات الرئاسى الخاتم بنزعة ارتجاليّة مُتسرعة وأحاديّة، كان آخر وأبرز مظاهرها حملة اعتقالات سبتمبر، التى اشتملت على 3000 شخصية مصريّة عامة، فى محاولة للقبض على الجمر ووأد الغضب، والتى كان «الأستاذ» أحد أهدافها. فجر الثالث من سبتمبر عام 1981، كان باب منزل محمد حسنين هيكل بالإسكندرية على موعِد مع طرقات «زوار الفجر»، الذين تعاملوا مع الرجل، حسب روايته عن أول وآخر تجربة اعتقال له، بكُل لطف، وأفردوا له 10 دقائق كاملة لحزم متاعه، لرحلة لن تطول لـ«أمن الدولة»، لتتم العملية رقم 9 فى حملة الاعتقال الواسعة بكُل سلاسة، عكس المُتوقع، ويتم ترحيله فى زُمرة من المعتقلين الذين تنوّعت مشاربهُم لتشمَل ألوان الطيف السياسىّ، إلى سجن طرة، حديث البناء وقتها، فيما وُزع المعتقلون على سجون مصر، وفق خُطة استراتيجية مُحكمة. يروى هيكَل عن ساعاته الأولى فى محبسه بطُرة أنه كان مفردًا فى زنزانة رقم «14»، بعدما تكدّست صُحبته القادمة معه من الإسكندرية، والتى كان قد ارتاح لصُحبتها، فى الزنزانة السابقة عليه رقم «13»، وأن رفقة زنزانة «الأستاذ» اختيرت بعناية من إبراهيم طلعت وكمال أحمد، من قيادات الحركة الناصرية، فضلاً عن مجموعة من شباب التيار الإسلامى، الذين طلبوا إلى إدارة السجن مزاملة «الأستاذ» فى زنزانته لمناقشته فى بعض آرائه فور علمهم بقدومه، لتُخيّره إدارة السجن فى رفقته، ويوافق هو على صحبتهم.

شبه مضرِب عن طعام السجن فى أوائل أيامه فى محبسه، اعتزل «الأستاذ» العسل الأسود وخُبز السجن المقدد، وتقوّت ببضع بيضات وخُبز ريفىّ أتى بها من منزله الريفى، أثناء مصاحبته مأمورية التفتيش إلى هُناك، فيما تنبّه سريعًا لخطورة الإقامة فى الزنزانة المُغلقة قُبيل إتاحة التريض والتجوُل فى أروقة السجن، فيعكُف على ممارسة طقس يومى من التمرينات الرياضيّة التى تناسب المساحة المحدودة المقررة له، حرصًا على صحته، حتى بدأت إدارة السجن فى تحسين ظروف الحبس، بإتاحة الدواء الضرورى، والسماح بانفتاح الزنازين على بعضها، فى خطوة كانت جد سعيدة ومثمرة لـ«الأستاذ».

مُتهمًا ببرودة الأعصاب، انفصل هيكل عن حالة الغضب العارمة التى عمّت جموع الشخصيات العامة التى قيدها الاعتقال، وبدأ فى استعادة عملٍ صحفىّ خالِص افتقده على مدى سنوات من إبعاده عن الكتابة لصُحفٍ مصريّة، يقول هيكل فى كتابه الذى روى فيه «قصة تلك الشهور المثيرة والحافلة من سنة 1981»، على حد تعبيره، إنه منذ اللحظة الأولى أدرك أن المُقامر الكبير قام بآخر لعبة كُبرى، وجازف بأوراقه كلها مرة واحِدة، ليدرك منذ هذه اللحظة أنه «يعيش دراما» سوف تصِل نهايتها فى يومٍ من الأيام.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل